فلسفة التربية
Download
Report
Transcript فلسفة التربية
إشكاالت ”فلسفة التربية“
إنها مبحث معرفي يعبر عن التقاء الفلسفة والتربية لكونهما يتخذان معا من اإلنسان ووجوده ومجمل
حياته اإلنسانية هاجسا لهما؛ فالتربية – كما يقول كانط -هي التي تجعل اإلنسان إنسانا ,كما أن الفلسفة قد عرفت
بتفكيرها النقدي والشمولي والعقالني في قضايا اإلنسان بهدف تحسين شروط عيشه .لكن ما طبيعة قضايا فلسفة
التربية؟ وما نوعية إشكاالتها؟ وما الذي يميّزها؟
لتحديد إشكاالت هذا المبحث المعرفي سأشير إلى مثال توضيحي ,فمثال عندما يتساءل أحدنا قائال كم
الساعة؟ فإن الفلسفة تتساءل بكيفية أخرى لتقول ما هو الزمن؟ وتساؤلها هذا يخص الزمن في عالقته بنا وبحزننا
وفرحنا وبحياتنا وموتنا وبوجودنا ومصيرنا .الحال ذاته بخصوص فلسفة التربية ,فهي ال تتساءل عن كيف نعالج عسر
القراءة؟ وال عن الكيفية السليمة لصياغة مقرر دراسي؟ وإنما تتساءل عن قيمة ومعنى فعل معرفة القراءة؟ عن ما
يستحق أن يدرس ولماذا؟ إنها ال تبحث عن الوسائل الناجعة لفعل التربية بقدرما تتساءل عن معنى هذا الفعل وغاياته
وماهيته وحقيقته؟ إنها تطرح أسئلة من قبيل ما غاية التربية؟ ألجل ماذا نمارس هذا الفعل؟ كيف تتحدد ماهية التربية؟
ماذا ننشد من وراء فعل التربية؟
إن نظير هذه اإلشكاالت هو ما يسمح بالولوج إلى مجال فلسفة التربية ويجعل من حديثنا في صميم فلسفة
التربية.
قيمة فلسفة التربية وإمكاناتها؟
تستلهم فلسفة التربية قيمتها من نظرتها الشمولية لسيرورة التربية ,حيث ينهل فالسفة التربية أفكارهم
ويشكلون وجهات نظرهم ومواقفهم من خالل:
.1استحضار مجمل تاريخ الفكر التربوي ,فال داعي بأن أشير إلى أن فالسفة الماضي الكبار قد تناولوا مشاكل تربوية
منذ أفالطون وأرسطو والرواقيون وفالسفة العصور الوسطى والفلسفة اإلسالمية وفلسفة االنوار إلى الفلسفة
المعاصرة .إن كل الفالسفة قد اتخذوا من التربية موضوعا أساسيا في تفكيرهم.
.2
استلهام خالصات ونتائج علوم التربية ,ففلسفة التربية حريصة على إقامة عالقات بين علوم متعددة ,سواء العلوم
النظرية المرتبطة بالتربية مثل السيكولوجيا والسوسيولوجيا وغيرها؛ أو العلوم التطبيقية النوعية التي تمخضت
عن المشاكل المطروحة من طرف التربية ذاتها مثل علم االمتحانات وعلم التواصل الصفي وعلم التنشيط
المدرسي ...ال تكتفي فلسفة التربية بالنظرة التجزيئية وإنما تتبنى رؤية شمولية قد ال تنشد الموضوعية العلمية
الصارمة بقدرما تصر على القراءة التأويلية الكفيلة باستيعاب المشكل وإيجاد حلول مالئمة لتجاوزه حسب
مقتضياته وشروطه.
.3
االستناد إلى مناهج متعددة عند تناول القضايا التربوية ,ففالسفة التربية يعتمدون التحليل المنطقي إلزالة أي
التباس أو غموض للمفاهيم (مثل دمقرطة التعليم=الليبرالية/المساواة) أو لتصحيح األسئلة المغلوطة (ما معنى
التربية االجتماعية؟ عن أي مجتمع نتحدث؟) كما يستعينون بمنهج االستدالل بالضد أو بالمنهج الجدلي...إلى غير
ذلك.
التربية كموضوع للفكر الفلسفي
حرصا على ضمان وحدة التربية ,يتبنى علماء فلسفة التربية تصورا شموليا عن التربية ,فهي في نظرهم
”عملية متكاملة ودينامية تستهدف اإلمكانات الوجدانية والروحية والجسدية للفرد“ بهدف ”تأهيله سواء على مستوى
وجوده الذاتي أي في عالقته مع ذاته ,أو على مستوى وجوده التفاعلي أي في عالقته مع غيره ,وبالتالي تمكينه من
تحسين شروط وجوده االجتماعي؛
إن مأتى هذا التصور الشمولي عن التربية يرجع إلى االستناد على ثالث مرادفات لفعل ”ربى“ – كما أشار
إلى ذلك Olivier Reboulفي مؤلفه - La Philosophie de l’Educationوهي:
أ -أنشأ :كما يستفاد من عبارة ”التربية األسرية“ ,فاألم تربي النشء بتلقائية لتمكينه من تنمية وعيه ومن القدرةعلى التواصل.
ب -علّم :كما يفهم من عبارة ”التربية والتعليم“ ,فاآلباء ,وإن كانوا متعلمين ,يبعثون أبناءهم إلى المؤسسةالتعليمية لتلقي التربية وللتعلم.
ج -ك ّون :كما يستشف من عبارة ”التربية والتكوين“ ,حيث نميّز بين التعليم الجاف وبين التكوين الجيد والمستمرإن اإلنسان يتلقى التربية ,والتعليم ,والتكوين داخل العائلة والمؤسسة بشكل يصعب التمييز بين كل حالة؛
ولذلك ففلسفة التربية تنظر إلى ممارسة التربية كتعلم وكتكوين وكتربية مرتبطين باإلنسان منذ والدته إلى آخر يوم من
حياته وفي كل المجاالت ,بالتالي فهي تحرص على ضمان وحدة التربية والتي بفضلها يصبح اإلنسان كائنا ثقافيا بامتياز.
تتسم فلسفة التربية إذن بطابع تعددي من حيث مناهجها وأسسها لكونها تنظر إلى ممارسة التربية كعمل
مركب يسعى لتنمية طاقات الكائن اإلنساني التي يحملها كل واحد منا في نفسه؛ فليست التربية مجرد صنع لراشدين تبعا
لنموذج معين وإنما باألساس تحرير اإلنسان من كل ما يمنعه من تحقيق ذاته ,إننا نتربى ونتعلم ونتكون حتى نعرف كيف
نفكر أحسن ونتكلم أفضل وننجز أحسن ...وكل حديث عن األفضل واألحسن في مجال فلسفة التربية يعني التساؤل عن
قيم وغايات التربية .فما قيم التربية وما غاياتها؟
قيم التربية وغاياتها
بإيجاز سأعرض بعض التصورات لفلسفة التربية والقيمة المركزية التي تمحور حولها كل تصورفلسفي
•
•
•
للتربية:
التصور الفلسفي اليوناني للتربية( :أفالطون ,أرسطو )..اعتبر فالسفة اليونان أن الغاية من وراء فعل التربية هو
تحصيل الفضيلة ونش ُرها؛ إذ ينطلقون من فكرة أن فضيلة المدينة أي عدالتها وكمالها المدني ينتج عن انسجام
فئاتها وأفرادها ,والحال ذاته بخصوص الفرد الواحد؛ فحتى يكون الفرد فاضال فهو مطالب بتحصيل توازن
وانسجام بين قواه النفسية الثالث :الشهوانية ,والغضبية ,والعاقلة .ولذلك فغاية التربية هي تنشئة الفرد وتعليمه
وتكوينه لتمكينه من اكتساب الفضيلة األخالقية والتي تحصل لدى الفرد بعد اكتسابه القدرة على االعتدال.
التصور الفلسفي اإلسالمي للتربية( :ابن سينا ,الغزالي ,ابن مسكويه )..يرى الفالسفة المسلمون أن مهمة التربية
تكمن في التنشئة االجتماعية السليمة القائمة على أساس العمل الصالح .طبعا ,مأتى هذا اإلعالء من شأن العمل
الصالح تكمن في مكانته داخل المنظومة الدينية ,وأيضا استحضارا ألهميته في بناء المجتمع اإلسالمي المتميز.
تصور فالسفة األنوار للتربية( :روسو ,كانط ،هيجل )..في منتصف القرن 18تأسست ما نطلق عليه ”التربية
الحديثة“ وبالضبط مع مؤلف (روسو) ”إميل أو عن التربية“ الذي اعتبر فيه روسو أن التربية تمدنا بكل ”ما
نفتقر إليه عند والدتنا ونحتاج إليه عند كبرنا“ ,إنها أكثر الحاجات الطبيعية بالنسبة لإلنسان ,فعلى عكس النمو
التلقائي الغريزي والتلقائي لدى الحيوان ,فإن اإلنسان يتلقى تربية على أساس الحرية ,فال معنى لتربية تعاكس
حق الطفل في الحرية .إن حقيقة التربية وجوهرها –في نظر روسو -هي الحرية ,باعتبارها غاية التربية.
في نهاية القرن 18كتب (كانط) مؤلفا تحت عنوان ”تأمالت في التربية“ أشار فيه إلى أن ”الحاجة
اإلنسانية للتربية هي حاجة لمزيد من الحرية واالكتمال المتواصل“ .إن غاية التربية هي مساعدة الطفل على
امتالك ”الجرأة والتفكير اعتمادا على الذات“ ,إنها تؤسس مبدأ االستقالل الذاتي لدى األفراد بحيث أن انضباطهم
داخل المجتمع يعد مجرد مرحلة أولى ,تليها مرحلتي التخليق والتمدن اللتين تشترطان حسب كانط حرية أكبر لفعل
التربية.
أضيف موقف ثالث ألحد فالسفة األنوار خالل المنتصف األول للقرن ,19وهو موقف (هيجل) الذي أكد أن
استلهام الطفل لروح الجماعة واكتسابه للواجبات األخالقية بفعل التربية يتم على أساس تمتعه بحرية مسبقة يقول
هيغل» :إن احترام الواجب األخالقي الذي يفرضه الموقع داخل المجتمع يفترض ضرورة اختيار هذا الموقع بحرية ...إذ
بذلك يمكن تأسيس حياة مدنية مشتركة بين أفراد هذا المجتمع «
← نخلص إلى أن فلسفة األنوار تعلي من قيمة الحرية ,وما يترتب عنها من استقاللية ومن اعتماد على الذات الفردية
ومن نضج واكتمال ذاتي ,..كغاية مركزية للتربية.
تصور الفلسفة المعاصرة للتربية :استفاد فالسفة التربية المعاصرين من خالصات علوم التربية التي
ظهرت مع نشأة العلوم اإلنسانية في نهاية القرن ,19حيث اعتمدت فلسفة التربية في القرن 20على ”نظريات
التنشئة التي تركزت حول التطور المعرفي (كما تطرق إلى ذلك بياجي) وحول امتالك هوية شخصية واخالقية من خالل
العالقات العائلية (فرويد) وحول امتالك وعي ذاتي وهوية اجتماعية (هيربرت ميد)( “..ص” 862.المنهل التربوي“
عبد الكريم غريب) .سأشير هنا إلى ثالث مواقف باقتضاب:
األول ألحد مؤسسي علم االجتماع وهو كوندورسيه( )1952/..18الذي اعتبر أن غاية التربية هي نشر
أفكار ومبادئ التنوير وتخليص عقول الناس من ظلمات القرون الوسطى ،حيث الكنيسة تستحوذ على نظام التربية،
وهي تربية تلقن الجمود والخرافة والوصاية على الفكر .فالتربية في نظره ينبغي أن تكون تربية على الحرية
والديمقراطية .يقول” :إنه ينبغي أن ال نخضع جيلنا آلراء وأرادة االجيال السابقة ،بل ينبغي تنويره أكثر فأكثر حتى
يصبح كل واحد أهال لتدبير نفسه بإرشاد من عقله“
الثاني ألحد علماء النفس وهو(كارل يونغ )C. Jungوالذي ميز في كتابه ( (Dialectique du
و’’الفردانية“
قيمتي”التفرد“()L’Individuation
بين
Moi
et
de
L’Inconscient
( )L’Individualismeفالتربية ,في نظرهُ ,تمكن الفرد من تحقيق ذاته ,حيث تساعده على“القيام بشكل جيد وتام
بالمهام الجماعية ,مع األخذ بعين العتبار بما فيه الكفاية خصوصيات الفرد التي تسمح له بأن يكون داخل النظام
االجتماعي عنصرا مناسبا ومندمجا أكثر مما لو كانت هذه الخصوصيات مهملة أو مقموعة “.إنها (التربية) تجعل منه
–حسب وصف (يونغ)” -وحدة حية“ أو ”كائن جمعي“ ال فرداني ,مما يسمح له بأن يحقق ”حسن التواجد الذاتي“
( )Savoir-etreوأيضا ”حسن التواجد مع الغير“ ( )Savoir-etre avec l’Autruiبما يترتب عن ذلك من التمتع
بقيم التسامح والتضامن والتضحية وحب التفاعل واالختالط ( )Mixophilieال الخوف منهما( .)Mixophobie
← إن غاية التربية في نظر (يونغ) هي تمكين الفرد من القيم اإلنسانية النبيلة التي تخول له القدرة على تحسين
شروط وجوده الذاتي والتفاعلي – العالئقي -االجتماعي بفضل نسج عالقة سليمة وجيدة مع الذات ومع الغير وبالتالي
تحقيق تفرده مع انظباطه لمقتضيات الجماعة.
الموقف الثالث للفيلسوف الفرنسي المعاصر ل(ادغار موران ,)E. Morinففي مؤلفه
La Voie :Pour l’Avenir de l’Humanité
يتطرق إلى أزمة الفكر والتربية وسبل إصالحهما ,إذ يلح على تالزم هذين اإلصالحين ,فكل واحد منهمايستلزم إصالح اآلخر .يقول في ص: 156.
« Seuls des Esprits réformés pourraient réformer le système éducatif, mais
seul un système éducatif réformé pourrait former des esprits réformés. La
réforme de pensée dépond de la réforme de l’éducation, mais celle-ci dépond
»aussi d’une réforme de pensée préliminaire
كما يقيم تالزما آخر بين نقل المعارف والمهارات إلى الناشئة وبين تعليمها شروط الوجود اإلنسانيوالتدرب على القيام بدور المواطن المشارك في الحياة العامة .واستحضارا لهذين التالزمين ,قدم موران ”سبع
معارف ضرورية للتربية المستقبلية“ اعتبرها غاية كل تربية سليمة وهي:
.1تعليم معارف إنسانية مركبة تشمل ما هو ذهني ونفسي وسلوكي وثقافي واجتماعي ..وتمكن من تجاوز كل ما
يشوش على الذهن البشري وبالتالي تسليحه لخوض المعركة الحيوية من أجل الوضوح في مسار الحياة اإلنسانية.
.2امتالك مبادئ معرفية كلية تسمح بالرؤية الشمولية للقضايا ,فمن الوهم االعتقاد بحل المشاكل االجتماعية فرديا.
.3تعليم الوضعية البشرية من خالل مراعاة الوحدة االنسجامية المعقدة للكائن اإلنساني بوصفه ”كائن متعدد“ ،يقول:
’’إن الكائن البشري هو في الوقت نفسه كائن بيولوجي وتاريخي ولغوي ورمزي ...إنه كائن بيوثقافي بامتياز“
.4االنفتاح على كل ما هو كوني واالعتراف بالهوية األرضية وهو ما يستلزم احترام اآلخر مهما كان عرقه,
وعقيدته ,وخصوصياته..
.5تطوير ملكة النقد لمواجهة األوهام والوثوقيات والدوغمائيات التي تحكم اإلنسان وتحول دون تنمية ذاته ووجوده.
.6تعليم شروط خلق عالقات التفاهم والتعايش مع الغير سواء فردا داخل نفس المجتمع أو بين مختلف المجتمعات.
.7اكتساب إيتيقا النوع البشري أي األخالقيات المدنية ( )éthique civiqueالمميزة للكائن اإلنساني.
استنادا إلى هذه المعارف ,وحتى تتمكن التربية من تحقيقها ,وبالتالي إنجاز مهمة إصالح التربية
( )Réforme de l’Educationفإن موران يقترح ضرورة الرجوع إلى الحقيقة التربوية األولى والتي صاغها
أفالطون والتي مفادها )« Pour enseigner, il faut de l’éros »(p.158
فغاية التربية إقامة عالقات الحب والتسامح مع الذات ومع اآلخر ومع المعرفة ومع الحياة ككل؛ وهو ما لخصه
موران بإكساب الناشئة األخالقيات المدنية .لكن ما طبيعة هذه األخالقيات بوصفها غاية كل تربية؟ هذا التساؤل هو
موضوع الجزء الثاني من هذه المداخلة .سنرجئه إلى حين.
خالصة أولية
أقدم خالصة للجزء األول المرتبط بتحديد تعريف لفلسفة التربية والتي مفادها بأن ”فلسفة التربية“
تتكفل بمهمة التفكير النقدي لمبادئ التربية وغاياتها ,أو ما يمكن أن أسميه ”إبيستيمولوجيا التربية“ وذلك بهدف
تصحيح مسار التربية حينما تعترضها األزمات التي تعيقها وتحول دون بلوغها إلى تنشئة األفراد على القيم اإلنسانية
الفاضلة.
إنهاعمل فكري منظم يتخذ الفلسفة وسيلة لترشيد العملية التربوية وتنسيقها وتحصيل االنسجام بين
عناصرها ،وتوضيح القيم واألهداف التي تسعى إلى تحقيقها ,وذلك بالتركيز على محورين بارزين بوصفهما أهم
المحاور الكبرى التي تهتم بها فلسفة التربية ،وهما :إشكالية تعريف التربية وغاياتها وأهدافها ،وكذا قيمتها
وإمكاناتها وحدودها .وهذا ما عملنا على تتبعه خالل هذا العرض الذي نتمنى أن نكون قد تمكنا من تبليغكم هذا
المقصود بشكل واضح.
ما سبق يعد الجزء األول من هذه المداخلة ،بينما في الجزء الثاني سأعود للسؤال الذي
طرحت سابقا والمتعلق بطبيعة األخالقيات المدنية التي ينبغي إكسابها للناشئة؛ إذ من خالل هذا السؤال سأحاول
اإلجابة عن سؤال يخص التربية في مغرب اليوم فما غاية هذه التربية؟ وما القيمة التربوية التي تسعى البرامج
التعليمية والتربوية إلى تكريسها لدى الناشئين المغاربة؟
خالل منتصف العقد األول من األلفية الثالثة ،اتخذ المغرب التربوي من التربية على المواطنة محدِّدا
استراتيجيا للفعل التربوي وتبنى قيمة المواطنة كغاية لهذا الفعل ،باعتبار أن هذه القيمة هي أساس كل األخالقيات
المدنية فما المقصود بهذه القيمة؟ وما سمات فعل التربية على المواطنة؟
قبل ذلك سأقتبس من أحد الفالسفة المفكرين المغاربة حكما يخص واقع التعليم بمغرب اليوم لكونه
يعكس دوافع تبني فعل التربية على المواطنة يقول علي أومليل” :يعترف الجميع بأن التعليم عندنا في أزمة ،ألنه يلقي
بأعداد هائلة من الخريجين إلى البطالة ،وألن مناهجه التربوية ونوع المعرفة التي يعطيها ال تساير عالما سريع
التطور في كمية المعرفة التي ينتجها وفي المؤهالت التي يتطلبها سوق العمل .لكن األزمة تتمثل أيضا في انهيار كل
اآلمال المعلقة على التربية والتعليم؛ فقد كان التعويل على التعليم ،ومنذ حقبة الحركات الوطنية ،أنه سيرفع مستوى
الوعي ... ،وبذلك يكون التوسع في التعليم أداة لتوسيع قاعدة الديمقراطية وتكافؤ الفرص ...إال أن تعليمنا أصبح يدور
حول نفسه فيكرر إنتاج معرفة محلية نظرا لعدم مسايرته تطور المعرفة في العالم المتقدم“ (كتاب سؤال الثقافة
ص .)124.فبالرغم من أن مفكري اإلصالح وقادة الحركات الوطنية في العالم العربي ككل ”قد اعتبروا التعليم وسيلة
للتحديث( ...من خالل) تكوين المواطن المستنير المتشبع باألفكار الحديثة ،وبروح المواطنة ،أي خلق اإلنسان الجديد“
ولذلك ”قام المعلمون ..بدور أساسي في نشر أفكار التقدم والحداثة“ (ن.م .ص )12 .لكن يستدرك المفكر علي
أومليل قائال” :لكن المالحظ اآلن أن أفكار الحداثة أخذت تنحسر في صفوف رجال ونساء التعليم ،فقد أخذت المحافظة
(بالمعنى السلبي) تشيع بين هؤالء في التفكير والسلوك ...وأصبحت هذه المحافظة الثقافية تلحق حتى الجامعات،
السيما وأن هذه األخيرة أصبحت ضعيفة الصلة بالجامعات ومراكز البحث األجنبية ،فأصبح أغلب أساتذتها يتكونون
محليا معتمدين في ثقافتهم وتدريسهم على مترجمات تفتقد في غالبيها الدقة ألن معرفتهم باللغات األجنبية أصبحت
تقريبية والكثير منهم ال يعرفونها إطالقا“ (ن.م .ص .)13.ثمة إذن انهيار بين لآلمال المنتظرة من التعليم والتربية؛
فالتعليم الذي يرجى منه ”أن يكون –يقول علي أومليل -تربية على الديمقراطية لضمان رسوخها في العقليات
والعادات وتكوين الضمانة األساسية الستمرارها ،وهو اإلنسان الواعي بحقوقه وبحرياته(...ومن تم) إقرار للمساواة
في المواطنة .فغاية التربية والتعليم إذن نشر أفكار التقدم والوعي بالديمقراطية“ (ص )16 .قد فشل في تحقيق ذلك
بالمغرب ،من هنا أهمية وضرورة إعادة توجيه فعل التربية بما يخدم الغايات المرجوة منه والمتمثلة في استنبات
االخالقيات المدنية وأساسها قيمة المواطنة .فما المواطنة؟ وماذا يقصد بالتربية على المواطنة؟
ينبغي بداية االنتباه إلى أن المقصود ب“المواطنة“ ال فقط ،وكما هو سائد عند العديد من الناس” ،الحق
في أن يكون لنا حقوق“ ،إذ عندما تسأل الناس عن المواطنة في نظرهم ،تراهم يميلون إلى الحديث عن الحقوق أكثر
مما يكونون مستعدين للحديث عن المسؤوليات أو المشاركة في المجال العام .إن أهم ما تفيده التربية على المواطنة
هو ضرورة استبدال ما يطلق عليه ”المواطنة السلبية“ أي ذلك القبول السلبي للمواطنين بما يعزى لهم من حقوق،
وتعويضه بنوع من الممارسة الفعلية والنشطة للمسؤوليات المواطنية والمشاركة اإليجابية والفعالة مع أولوية
االتصاف بالفضائل المدنية التي تعكس ما يسميه كيمليشكا ب ”روح التحضر“ أو ”التعقلية العمومية“ يقول ”غالبا
ما ينظر إلى المواطنة بمعناها األدنى على أنها تقتضي فقط عدم التصادم مع الغير .غير أن ذلك يتجاهل أحد
المقتضيات األساسية للمواطنة المتمثل في فضيلة اجتماعية وهي ”التحضر“ أو ”اللياقة“ هذه الفضيلة يتعين على
الجميع اكتسابها وتعلمها ...ما دامت تنطبق ..على أفعالنا في الحياة اليومية وفي محيط الجوار وفي مختلف
المؤسسات ومنتديات المجتمع المدني“ (ص )377 .ليوضح بأن ”التحضر يفرض االلتزام بمعايير المساواة داخل
الحياة العامة في المجتمع“ (ص )378 .خاصة وان القصور عن المشاركة في الحياة العامة يجعل الشخص ”كائنا
متخلفا من حيث النمو والنضج ويعاني من قصور جوهري“.
ثمة تصنيف مشهور لوليامز غالستن ) Galston (1991يقضي بأن المواطنة المسؤولة تقوم على
أربعة أشكال من الفضائل المدنية ،باكتسابها يتأهل األفراد إلى أن يصبحوا مواطنين في نظام مجتمعي عادل ومنصف:
فضائل عامة :الشجاعة وطاعة القانون واإلخالص ... فضائل اجتماعية :االستقالل ةاالنفتاح الفكري... فضائل اقتصادية :أخالقيات الشغل والقدرة على التكيف مع المتغيرات... -فضائل سياسية :القدرة على ادراك حقوق الغير وتحمل المسؤولية الجماعية ...
لكن كيف سنتعلم مثل هذه الفضائل؟ ما شكل ”المشروع التكويني“ الكفيل بتكريس هذه الفضائل؟ كيف
يمكننا التغلب على ما يسميه هابرماس ب“مرض التقوقع في الحياة الخاصة“ وتشجيع الناشئة على االستجابة إلى
مطالب المواطنة والتصرف وفق الفضائل التي تتطلبها؟ (هذه جزء من األسئلة التي طرحها كيمليشكا ص)368 .
إن الجواب في نظر كيمليشكا هو من خالل نظام التربية ،إذ يشير بأن هناك مقاربات قد ذهبت ”إلى فرض
س ُر معرفة كيف يمكن أن تضبط فضائل التحضر
يع ُ
واجب قانوني يلزم الناس بالتحلي بمثل هذه الفضائل ..لكن ْ
والتعقلية العمومية بواسطة قوانين .لذا ،يمكن اإليمان بالوظيفة التربوية التي يمكن أن توفر للناس فرصة التعرف
على أفكار جديدة والختيار هويات جديدة وأشكال أخرى من التعاطف وتساعدهم على فتح آفاقهم الفكرية وتعويدهم
على إدراك المصالح الثاوية وراء الظروف الشخصية والمباشرة المحيطة بالناس وتنبههم إلى أن المشاغل العامة هي
التي ينبغي أن تستقطب اهتمامهم“ (ن.م .ص )380.وبالتالي ،يجب إعادة تنظيم المدارس حتى تصبح منابت حقيقية
للفضائل المدنية التي ال يمكن أن تتعلم في مجاالت أخرى ،فهي مجال لمعالجة كل األمراض التي تشوب سلوكنا
االجتماعي ،إن مجاالت الحياة المدرسية هي األكثر تأهيال لتشكيل ”طبع التلميذ وكفاءته وقدرته ...بنا يمكنه من تعلم
تحمل مسؤوليته الشخصية وقيامه بالواجب المتبادل وحرصه على التحكم اإلرادي في ذاته ،فذاك هو أساس المواطنة
المسؤولة والحقيقية“ (ن.م .ص .)385.يؤكد كيمليشكا أنه ينبغي على المدارس أن:
ُ تعلِّم التالميذ االنخراط في عمل نقدي وفق وجهة أخالقية تتحدد من خالل التعقلية العمومية ،وقد استدل بموقف
ل“آمي غيتمان ) “Gutman(1987تشير فيه إلى أنه يتعين على التالميذ في المدارس “أن يتعلموا كيف يفكرون
بروح نقدية تجاه السلطة إن كان ال بد لهم من أن يعيشوا وفق المثل األعلى للديمقراطية القاضي بتقاسمهم كمواطنين
السيادة“ .قد أقرت غيتمان أن التربية على المواطنة تقتضي ”تزويد الناشئة بالمهارات الفكرية الضرورية لالطالع
على أساليب مختلفة في الحياة( “..ن.م .ص )386.بمعنى أن من مهام المدارس أن تهيئ الظروف التي يستطيع فيها
التالميذ إدراك أن االختالف بل والخالف أمر معقول ،فينبغي أن يتعلموا أن من ال يشاركهم الرأي واالختيار ليس فاسد
الرأي .فتعلم التعقل العمومي يقتضي أن يفهم التلميذ أن هناك أناسا متعقلين والئقين وإنسانيين ليسوا على رأيه وليس
لهم مثل اختياره .يقتبس كيمليشكا من جديد عن”كالن“ Callan 1997هذا االستشهاد ،والذي مفاده ”إن المطلب
األساسي يتمثل في أن تتضمن التربية في مرحلة ما تفاعال نقديا ومتعاطفا مع معتقدات وأساليب في العيش قد تكون
على طرفي نقيض مع ثقافة األسرة التي ولد فيها الطفل“ (ن.م .ص)387.
ُ تد ِّرس جميعها التحضر ليس فقط من خالل إعالم التالميذ بالمزايا األخالقية لقيمة التحضر وإنما بالتأكيد على أن
االنتماء إلى الحياة المدرسية يجعلهم ي ْر ُبون بأنفسهم عن اعتبارات االنتماء العرقي أو القبلي أو الطائفي ويتعاونون
مهما اختلفت انتماءاتهم إلنجاز البرامج المدرسية ولتعاطي األنشطة ضمن الفرق الرياضية.
ُ تز ِود التالميذ ب“رأسمال اجتماعي“ إلى جانب ”الرأسمال البشري“ ،فإذا كان هذا الرأسمال األخير ُي ِعدُّهم لكي
يصبحوا منتجين في مجال االقتصاد والخدمات والمهن واإلدارة ،فإن الرأسمال االجتماعي يكسب التالميذ ”القابلية بأن
يعملوا معا من أجل أهداف مشتركة كجماعات وتنظيمات“ حتى أنه لن يكون الرأسمال البشري قيمة منتجة ما لم
تكونهم في مختلف ميادين المعارف والمهن والتخصصات لكنهم لن
ُي ْسنِدْ ه رأسمال اجتماعي؛ بمعنى أنه يمكن أن ِّ
يكونوا حقيقة منتجين ما لم يكن مجتمعهم قد تواطأ على قيم اجتماعية من ثقة في التعامل والتزام بالتعاقد ووجود بيئة
اجتماعية تتيح أخالقيات العمل والجد في إتقانه .وهذا كله رأسمال اجتماعي يأتي من التربية التي توفرها األسرة
والمدرسة والمجتمع كما يؤكد على ذلك أيضا المفكر المغربي علي أومليل في مؤلفه السابق الذكر(ص)32-31 .
نخلص إلى أن التربية على المواطنة هي بمثابة ما سماه ساندل ” Sandel 1996مشروع تشكيل“ تقوم
من خالله المؤسسة التربوية بغرس صفات وطبائع وفضائل مدنية (التعقل العمومي ،التحضر ،الثقة ،االلتزام،
المسؤولية )...لدى المواطنين ،إذ غاية التربية هي تمكين التالميذ من ممارسة هذه الفضائل حتى يصبحوا مسؤولين
وفاعلين في مجتمعهم يتجادلون فيما بينهم عن علم ودراية لحل جميع خالفاتهم ،ولعل أفضل فضاء مالئم لذلك هو
جميع مجاالت الحياة المدرسية.