المحور التاريخي - السلطة القضائية
Download
Report
Transcript المحور التاريخي - السلطة القضائية
اضواء على النظام القضائى فى السودان
تحتوي هذه الدراسة على محاور بالتفصيل التالي:
المحور التاريخي :لمحة تاريخية للنظام القضائي بالسودان
استقالل القضاء وضماناته.
المحور األول:
المحور الثاني :التنظيم القضائي المعاصر "الهياكل والمضامين"
المحور الثالث :فاعلية عدل القضاء السوداني وخصائصه
وفيما يلي نعرض كل محور على حدة
= المحور التاريخي =
لمحة تاريخية للنظام القضائي بالسودان
بدأت تترسخ جذور القضاء السوداني المعاصر منذ بدايات حقبة الممالك اإلسالمية في السودان
بمنتصف القرن الخامس عشر الميالدي بنشأة سلطنة دارفور ،في سنة 1444للميالد ،حيث تولى فيها
الحكم سليمان بن أحمد سفيان العربي – كأول حكام السلطنة -مستهالا عهده بإصالحات قضائية ،عني
فيها بحسن اختيار قضاة السلطنة بنفسه ،بعد طول تأمل في الرعية تحريا ا الختيار األمثل لوظيفة
القضاء.-
كان القضاء في سلطنة دارفور ينقسم إلى قسمين هما-:
أ -القضاء النظامي:
ويتقاضى – أي يترافع -أمامه الخصوم على مرحلتين ،ابتدائيا ا أمام (المحاكم الصغرى) ،ثم استئنافيا ا
أمام المحكمة الكبرى ،وقد انتشرت المحاكم الصغرى في المدن اإلقليمية ،بينما كانت حاضرة السلطنة -
الفاشر -هي مقر المحكمة الكبرى .وكانت مرجعية العمل القضائي النظامي قائمة على المذهب المالكي
ب -القضاء العرفي:
ويقوم به جماعة من كبار علماء السلطنة بالبوادي والقرى النائية ،وهو أشبه بنظام (قضاء
الصلح) ،ويسمى في عرف أهل السودان بنظام األجاويد .واألصل في هذا النظام هو االحتكام إلى
األعراف والتقاليد والعادات ،ومنه استقرت القاعدة الفقهية " :العادة محكمة " .وقاعدة:
"المعروف عرفا ا كالمشروط شرطا ا" ،وقد استقر في الوجدان أن :
العرف في الشرع له اعتبار *** لذا عليه الحكم قد يدار .-
وفي أواسط السودان تأسست مملكة الفونج -المشهورة بالسلطنة الزرقاء ،أو مملكة سنار -بدءاا
من سنة 1504م حتى سنة 1821م ،-ونال التنظيم القضائي فيها حظا ا وافراا ،حيث أنشئت محكمة
عليا بحاضـرة المملكة " سنار" وعين لها قاضي يلقب بقاضي عموم سنار ،كما أٌنشئت محاكم
إقليمية سميت بالمحاكم الصغرى في كل من مدن شندي وأبو حمد وبربر وفريق وح ّنك والحتانة
وأرقو .وكانت تشكل المحاكم الصغرى من قاضي فرد ،يختص بنظر الدعاوى ذات الطبيعة البسيطة،
أما الدعاوى ذات الطبيعة الخطيرة فقد كانت تنظر بنظام التعدد ،وتستأنف األحكام لدى المحكمة
العليا – محكمة عموم سنار -التي أمتد اختصاصها إلى جميع أركان المملكة – هذا فضالا عن أن
اختصاصها قد شمل الفصل ابتدائياا ،في أقضية الجنايات الكبرى ،كالسلب والنهب والقتل ،وكذلك
أقضية األسرة والمعامالت المالية على اختالف أنواعها وقدرها.-
ودون هاتين المرتبتين اآلنفتين وجدت درجة للتقاضي أمام " محكمة الشريعة البيضاء" التي كانت
تنحصر في البوادي ،وقضاتها العلماء ،وتستأنف أحكامها لدى قاضي المحكمة الصغرى المختص.-
جاء في كتاب " تطور نظام القضاء في السودان" عن صفات قضاة مملكة الفونج أنه " :كان هؤالء
القضاة جميعهم من الرجال الصالحين ،وكان كل منهم عامالا عادالا ،ورعا ا تقيا ا وشيخا ا إسالميا ا آمراا
بالمعروف وناهيا ا عن المنكر .وقد اشتهر كل منهم بين قومه بالمروءة والوفاء بالعهد ،وحسن الجوار
ُ
الرعية القضا َة،
والحلم والعفة والتواضع والشجاعة والجود ،والنزاهة والصدق واألمانة ،لذلك أحب
ومالت إليهم قلوبهم ،واطمأنت إليهم نفوسهم"
كانت الجلسات القضائية في عهد السلطنة الزرقاء –ومن قبلها في سلطنة دارفور -تعقد علنا ا في
المسجد الجامع -أو بأية جهة أخرى ،-وكان القضاة يلتزمون بقواعد ضبط الجلسة ،إضفا اء لهيبة
القضاء على المجلس ،كما أنهم اتبعوا منهجا ا متطوراا في نظام المرافعات .وقد جاء في كتاب "تطور
نظام القضاء في السودان" أن القاضي في عهد مملكة الفونج" :كان يشرع في سماع الدعوى ويتولى
بنفسه توجيه األسئلة إلى الخصوم وسماع شهادة الشهود ومناقشتهم ،وال مانع من أن يطلب منه
النواب الذين معه بالجلسة توجيه ما يريدون من األسئلة ،وبعد أن يتم التحقيق الالزم في القضية ،
يأمر القاضي الخصوم بالخروج من قاعة الجلسة ،وبعد خروجهم يتناقش القاضي والنواب في القضية،
وبعد البحث والمناقشة يصدر الحكم – باالتفاق -وعند االختالف يرجح الجانب الذي مع القاضي".
وعلى ذات نسق مملكة دارفور ،فإن مرجعية العمل القضائي كانت قائمة على المذهب المالكي.-
ظل عمل القضاء في الممالك الوطنية على هذا النسق حتى العهد التركي المصري الممتد من سنة 1821م حتى
سنة 1885م – فأُنشئت محكمة عليا ،مقرها الخرطوم ،وكانت تسمى (مجلس استئناف السودان) وكان
اختصاصها استئنافياا ،حيث كانت تنظر في األحكام الصادرة من قضاة المديريات بصفة استئنافية ،وكانت أحكامها
نهائية .-أما محاكم المديريات فكان مقرها حواضر المديريات -مثل دنقال وبربر وسنار والخرطوم وفشودة والتاكا
وغيرها .-وكانت تنظر استئنافيا ا في أحكام قضاة األقسام التابعين لها ،كما كان لها اختصاص ابتدائي في كافة
األقضية بدائرة المركز.-
لقد أُدخل منصب (قاضي القضاة) في التنظيم القضائي السوداني في أوائل العهد التركي المصري ،بغرض
اإلشراف على العمل القضائي وتنظيمه ،-وقد استبدل العهد التركي مرجعية المذهب المالي بالمذهب الحنفي ،كما
بدأ نظام التقنين وفقا ا لمبادئ المرسة الالتينية بدءاا من منتصف العهد التركي المصري.-
فلما استعادت الدولة المهدية زمام السيادة ،في سنة 1885م أصبح اإلمام المهدي هو الرئيس األعلى للقضاء،
حيث كان يقوم بتعيين القضاة بنفسه ،وكان أكبر مناصب القضاء هو منصب "قاضي القضاة" ،وكان يختص
بترشيح العلماء لمنصب القضاء ،مع اإلشراف على أعمالهم ،فضالا عن ممارسته الختصاص قضائي ،برئاسة
محكمة أم درمان التي هي بمثابة (المحكمة العليا) اآلن.
كانت محكمة أم درمان – المحكمة العليا -في عهد المهدية تشكل من عشرين من القضاة ،يعملون بنظام القاضي
الفرد في القضايا كافة ،سوى القضايا الجنائية الكبرى حيث كانت تنظر بوساطة قضاة المحكمة العليا مجتمعين
برئاسة قاضي القضاة .وكانت األحكام التي تصدرها محكمة أم درمان – المحكمة العليا -انتهائيه -تكتسب قوة
به
المقضي
األمر
الشيخ محمد األسيوطي هو أول من تقلّد منصب قاضي القضاة بالسودان ،وجاء من مصر بصحبة جيش إسماعيل
باشا سنة 1821م = راجع كتاب تطور نظام القضاء في السودان صفحة .99
تميز التنظيم القضائي في عهد دولة المهدية بدخول نظام "القضاء المتخصص" فكانت هنالك محكمة
لدعاوى المال العام ،أسميت (محكمة بيت المال) .وكانت هناك محاكم الجهادية ومحاكم السرية ،وكان
هناك "قضاء المظالم" وهو أشبه بنظام القضاء اإلداري المعاصر.
وفي سنة 1898م استكملت دولتا الحكم الثنائي -إنجلترا ومصر -االستيالء على السودان ،لتسخير
موارده لصالح المستعمر ،لفترة تجاوزت نصف القرن ،حتى تاريخ إعالن االستقالل في يناير سنة
1956م.
اتفقت دولتا الحكم الثنائي على إبقاء السلطة التشريعية بالبالد بيد الحاكم العام اإلنجليزي ،كما اتفقتا
على تقسيم القضاء بالسودان إلى قسمين :مدني يرأسه رئيس القضاء –اإلنجليزي الجنسية.. ،-
وشرعي يرأسه قاضي القضاة -المصري الجنسية ،-وعلى أن يشرف السكرتير القضائي -اإلنجليزي
الجنسية -على إدارة القضاء.-
لقد اتسمت هذه الحقبة بكثافة التشريعات التي صدرت خاللها ،وأولها قانون عقوبات السودان لسنة
1899م الذي صدر نقالا عن قانون العقوبات الهندي ..وصدر في ذات العام قانون اإلجراءات الجنائية
لسنة 1899م.-
كما صدرت قوانين أخرى عديدة في ذات العام منها قانون سندات األراضي ،وقانون ضريبة المنازل
وقانون الموازين والمقاييس وقانون األسلحة وقانون المناجم وقانون ضرائب األطيان وقوانين بأسماء
مدن الخرطوم ودنقال وبربر ووادي حلفا وسواكن.
ثم صدر قانون القضاء المدني لسنة 1900م وقانون المحاكم الشرعية لسنة
1902م والئحة ترتيب ونظام المحاكم الشرعية لسنة 1915م وقانون الشركات
لسنة 1925م وقانون تسـوية األراضي وتسـجيلها لسنة 1925م –وهذان
األخيران -ساريان حتى اليوم ،-ثم صدر قانون القضاء المدني لسنة 1929م.
فتلك بعض القوانين التي صدرت خالل تلك الحقبة ،وكان لها دور هام في تنظيم
حركة المجتمع وعالئق أفرادها ،حيث جاءت كثير منها جيدة المضمون والصياغة
بداللة أن بعضها ما زال ساريا ا كما أشرنا آنفا ا.-
لقد ترسخت جذور النظام القضائي السوداني عبر تلك الحقب الغابرة ،فكانت تورق
شجرتها بممازجة مزايا السالفة بالخالفة ،فلما حانت حقبة التنظيم القضائي
المعاصر ،في السودان المستقل المعاصر ،تالقحت المبادئ القضائية الموروثة
تاريخيا ا مع مبادئ المدارس التشريعية المعاصرة -األنجلوسكسونية والالتينية
واإلسالمية -لتشكل تنظيما ا قضائيا ا ذا خصوصية متفردة -على نحو ما يبين في
المباحث التالية:
المحور األول –
استقالل القضاء وضماناته في السودان
اعتمد مبدأ استقالل القضاء باعتباره معياراا أساسيا ا إلنفاذ العدالة ،إبان انعقاد مؤتمر األمم المتحدة
الخاص بمنع الجريمة ومعاملة المجرمين ،وصادقت على ذلك الجمعية العامة لألمم المتحدة في سنة
1985م.
أما في السودان فقد عينت الدساتير المتعاقبة – بال استثناء -بالنص على مبدأ استقالل القضاء ،بدءاا
من اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير لسنة 1953م وقانون الحكم الذاتي لسنة 1953م مروراا
بدستور السودان المؤقت المعدل لسنة 1964م (المادة 9منه) ثم دستور السودان الدائم لسنة
1973م (المادة 185منه) ودستور السودان االنتقالي لسنة 1985م (المادتين 121/122منه)
ودستور السودان لسنة 1998م (المادة 99منه) فقد نصت كلها على أن والية القضاء في السودان
تناط بجهة مستقلة تسمى السلطة القضائية ،تتولى الفصل في األقضية وفقا ا للدستور والقانون وبأن
القضاة مستقلون في أداء واجباتهم القضائية ،وال سلطان عليهم إالا حكم القانون.
ويعيش السودان اليوم فترة زاهية ،حيث عنيت اتفاقية السالم الشامل بالنص على مبدأ االستقالل
العضوي للسلطة القضائية في فقرتها ( ،)1-11-2ثم كانت عناية الدستور االنتقالي لسنة 2005م أبلغ
في ترسيخ شمولية هذا المبدأ ،بجعله استقالالا متكامالا بجانبيه الوظيفي والمالي؛ إذ نصت المادة
( )123منه على أن-:
" ( )1تسند والية القضاء القومي في جمهورية السودان للسلطة القضائية القومية.
( )2تكون السلطة القضائية مستقلة عن الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية ولها االستقالل المالي
واإلداري الالزم.
( )3ينعقد للسلطة القضائية القومية ،االختصاص القضائي عند الفصل في الخصومات وإصدار
األحكام وفقا ا للقانون.
( )4يكون رئيس القضاء لجمهورية السودان رئيسا ا للسلطة القضائية القومية ورئيسا ا للمحكمة العليا
القومية ،ويكون مسئوالا عن إدارة السلطة القضائية القومية أمام رئيس الجمهورية.
( )5على أجهزة الدولة ومؤسساتها تنفيذ أحكام وأوامر المحاكم ".
وقد نصت المادة ( )8من قانون السلطة القضائية لسنة 1986م على ذات هذه المعاني بشأن والية
القضاء ومسئولية السلطة القضائية مباشرة لدى رئيس الجمهورية وبشأن ميزانية السلطة القضائية
التي تصدر بقرار من رئيس الجمهورية بتوصية من المفوضية القومية للخدمة القضائية ،وذلك يمثل
انعتاقا ا كليا ا من سطوة السلطتين التنفيذية والتشريعية.-
ضمانات استقالل القضاء:
تعميقا ا لجذور مبدأ استقالل القضاء في الواقع العملي -ولئال يضحى شعاراا خلواا من مضامينه -فقد أرست
اتفاقية السالم الشامل ودستور السودان االنتقالي لسنة 2005م ،ضمانات الستقالل القضاء ،تحقيقا ا
للغاية التي شرع من أجلها المبدأ ،وتتمثل تلك الضمانات فيما يلي-:
أوالا :عدم التدخل في أعمال القضاء:
وقد نصت الفقرة ( )3-4-11-2من اتفاقية السالم الشامل على منع تدخل السلطة السياسية على عمل
القضاء ونصها" :يمارس قضاة المحكمة الدستورية والمحكمة العليا القومية ،وجميع قضاة المحاكم
الوطنية األخرى مهامهم دون تدخل سياسي ،وعلى أساس من االستقاللية ،ومن دون خوف أو محاباة،
ويحمي الدستور القومي االنتقالي والقانون استقاللهم".
بل إن الدستور االنتقالي لسنة 2005م قد عنى بإيراد نص آمر يقضي بإلزام أجهزة الدولة ومؤسساتها
بتنفيذ أحكام وأوامر المحاكم -وهذا هو نص المادة ( )123/5من الدستور المذكور وقد سبق لنا إيرادها-
وهو نص يبعث الثقة في نفس القاضي ،وينزع عنه المهابة والرهبة ،ما دامت أحكامه وأوامره نافذة
بحكم الدستور.-
وقد نص الدستور االنتقالي لسنة 2005م في مادته ( )128/1على عدم جواز التأثير على القضاة في
أحكامهم.-
ثانيا ا :كفالة األمن الوظيفي:
لقد عنيت اتفاقية السالم الشامل ودستور السودان االنتقالي لسنة 2005م بكفالة
األمن الوظيفي للقاضي ،وتلك إحدى أهم ضمانات إنفاذ مبدأ استقالل القضاء ،إذ
حرمت الفقرة ( )7-4-11-2من اتفاقية السالم الشامل ،عزل القاضي ،فال يقال عن
وظيفته إال لسبب سوء سلوك فاضح أو النعدام الكفاءة والقدرة ،وتقرأ الفقرة على
النحو التالي " :ال تتأثر والية القضاء بقراراتهم القضائية ،وال يجوز إقالة القضاة
إال بسبب سوء سلوك فاضح وانعدام الكفاءة والقدرة أو خالفا ا لذلك وفقا ا للقانون،
وبنا اء فقط على توصية من المفوضية القومية للخدمة القضائية".-
وقد ش اددت المادة ( )131/2على عدم جواز عزل القضاة إذ أوردت ذلك بنص آمر
مشفوعا ا بمزيد من الضمانات ونصها " :ال يجوز عزل القضاة إال بسبب السلوك
المشين أو عدم الكفاءة أو فقدان األهلية ،وذلك وفقا ا للقانون ،على أالا يتم ذلك إالا
بأمر من رئيس الجمهورية ،بنا اء على توصية من رئيس القضاء وبموافقة
المفوضية القومية للخدمة القضائية".-
ثالثا ا :كفالة الراتب المجزي للقاضي:
كفالة الراتب المجزي للقاضي صونا ا الستقالل القاضي ،مبدأ تراثي للقضاء
السوداني – فهو موروث من فقهنا اإلسالمي ،إذ يروى عن سيدنا علي بن أبي
طالب أنه كتب إلى واليه بمصر " األشتر النخعي" قائالا " :وأفسح له -أي
للقاضي -في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس" وقد أحسن دستور
السودان االنتقالي لسنة 2005م في مادته ( )123/2حين كفل االستقالل المالي
التام للسلطة القضائية ،فهو أمر جوهري لتحقيق هذه الضمانة ،وال يخفى أن
الراتب المجزي مما يتيح للقاضي نظراا صائبا ا -بصفاء ذهن -في اقوال الخصوم
وأدلتهم ،بلوغا ا إلى فصل القضاء بالقسط ،وينعم قضاتنا بقدر وافر من هذه
الضمانة.-
= المحور الثاني =
التنظيم القضائي المعاصر
{الهياكل والمضامين}
تبلور التنظيم القضائي المعاصر في السودان ،مع إرهاصات االستقالل ،منذ توقيع دولتي الحكم
الثنائي –إنجلترا ومصر -على اتفاقية الحكم الذاتي للسودان في 12/2/1953م ،والذي أصبح بعدئذ
(قانون الحكم الذاتي لسنة 1953م) ،وقد نصت المادة ( )9منه على استقالل القضاء من السلطتين
التنفيذية والتشريعية.
ونصت المادة ( )76من القانون المذكور على اختصاص رئيس القضاء باإلشراف القضائي
واإلداري على الهيئة القضائية –بفرعيه المدني والشرعي ،-كما نصت المادة ( )86منه على إنشاء
مجلس للخدمة القضائية ،برئاسة رئيس القضاء ،مع تخويل رئيس القضاء –بعد التشاور مع قاضي
القضاة -بوضع لوائح تنظيم العمل وتحديد شروط خدمة القضاة.-
رئيس القضاء:
كان أول ظهور لوظيفة رئيس القضاء بالسودان في نهايات القرن التاسع
عشر ،إذ توالها بحكم منصبه "سير أدجار بونهام كارتر – اإلنجليزي
الجنسية -ما بين 1899م وحتى 1917م" ،وأعقبه "سير ويسي ستيري"
وكان يجمع بين وظيفتي رئيس القضاء والسكرتير القضائي ،وتعاقبت نخبة
من اإلنجليز -بعضهم جامعا ا بين هاتين الوظيفتين ،فكان "روبرت هـاي ون"
ثم "سير ب.هـ بيل" ثم "هاول أون" ثم "ج.ب قورمان" ثم "توماس كريد"
ثم "هـ.ج.م فالكسمان" ثم بنت " Bennetوكان آخر من تقلد المنصبين
هو " شارلس سيسل جورج كمنجز" جاء بعده متقلداا وظيفة رئيس القضاء
فقط "ماكالجان" ثم آخرهم "لندسي" ،بعدها جاءت مرحلة سودنة الوظيفة،
فكان أول من تولى وظيفة رئيس القضاء من السودانيين هو القاضي العالم
(محمد أحمد أبو رنات) في سنة 1955م ،وتعاقب بعده عقد فريد من
السودانيين وهم جميعا ا من أفذاذ فقهاء القانون الذين أثروا ساحات المعارف
القضائية –محليا ا وإقليميا ا.-
قاضي القضاة:
كان (قاضي القضاة) هو الذي يناط به اإلشراف القضائي واإلداري على قسم القضاء الشرعي (الذي
كان يختص بالفصل في أقضية األسرة) ،وخولت المادة ( )53من الئحة ترتيب ونظام المحاكم الشرعية
لسنة 1915م لقاضي القضاة سلطة إصدار منشورات قضائية للعمل بموجبها في المحاكم الشرعية.-
لقد تولى منصب قاضي القضاة من المصريين ،إبان الحكم الثنائي اإلنجليزي المصري ،علماء أجالء
مألت مصنفاتهم اآلفاق وظلت أجيال القضاة تقطف من ثمراتها ألكثر من قرن من الزمان ،فهنالك
الشيخ محمد شاكر والشيخ محمد هارون والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ محمد أمين قراعة
والشيخ محمد نعمان الجارم– وكان آخر العقد الفريد الذي تولى تلك الوظيفة من المصريين (الشيخ
حسن مأمون) ،ومن بعده جاء أول (قاضي قضاة) سوداني – خالل الحكم الثنائي -وهو فضيلة الشيخ
أحمد الطاهر ،ومن ثم تعاقب من بعده على تلك الوظيفة ثلة من عظماء قضاة السودان العلماء حتى
انتهت تلك الوظيفة في سنة 1983م بدمج المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية ،حيث أصبح رئيس
القضاء هو المسئول إداريا ا والمشرف قضائيا ا على السلطة القضائية الموحدة.
وال نغالي إن قلنا بأن أولئك النفر من العلماء األجالء قد بسطوا العدل ،وأثروا ساحات القضاء
السوداني بغزير معارفهم ووافر تجاربهم وخبراتهم ،ويشهد لهم ما سطروه من أحكام قضائية مشرقة
–ومن منشورات منظمة للعمل القضائي ،وثقتها مجالت األحكام القضائية وإصدارات المنشورات
والنشرات والتعليمات المطبوعة منها وغير المطبوعة.-
التالقح المعرفي والتواصل التأهيلي:
ذلكم العقد الفريد من الفقهاء اإلنجليز والمصريين الذين سطروا تاريخا ا قضائيا ا مجيداا في أرضنا ،لم
يدّخروا وسعا ا في نقل معارفهم وخبراتهم إلى األجيال السودانية التي عاصرتهم ،فأمتد عطاؤهم إلى
التنمية المعرفية لمعاصريهم من القضاة السودانيين ،الذين قاموا بذات الدور لمن خلفهم ،فكان ذلك
أنموذجا ا فريداا للتالقح المعرفي ،والتواصل التأهيلي ،حيث أصبح لدينا اليوم من القضاة حملة الدرجات
فوق الجامعية (الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه) مائتان واثنان وثالثون قاضياا ،من مجموع
تسعمائة وأربعة وأربعين قاضيا ا هم العاملون فعليا ا بالسلطة القضائية السودانية.
وهناك أعداد أخرى متفرغة -في مراحل الدراسات العليا ،فضالا عن القضاة المعاشيين الذين ال ينقطع
عطاؤهم ،بل يظلون في أداء دورهم الرسالي ،تدريبا ا للقضاة وتعليما ا في كليات القانون بالجامعات
المختلفة ،بمنهج نظري تطبيقي ،يعين على ترقية معارف الخريج الجامعي.
إن هذا التواصل التأهيلي المستمر وفق خطط مدروسة موجهة من شأنها إفادة إضافات حقيقية
لتخصصات المعارف القضائية ،بحيث جعل ذلك من القاضي السوداني ا
قبلة يممت شطره الدول الشقيقة
منذ أكثر من ثالثين سنة ،فكان له دور فاعل في إرساء دعائم النظم القضائية فيها –وباألخص في دول
الخليج العربي -ويبلغ عدد القضاة السودانيين المعارين إليها اليوم ،اثنان وخمسون قاضيا ا ،فضالا عن
أضعافهم من العائدين إلى أرض الوطن بعد أداء رسالتهم العدلية ،وما زال هناك عدد مقدر من
المعاشيين يديرون أغلب دفة النشاط القانوني بمختلف المؤسسات ،بل وال زالت الطلبات تترى لمزيد من
اإلعارة.-
هياكل السلطة القضائية الحالية:
عدلت القوانين المنظمة للسلطة القضائية السودانية كثيراا ،خالل عقود ما بعد االستقالل ،إالا أنها تكاد تتماثل في
أطرها العامة مع قانون السلطة القضائية لسنة 1986م –الساري المفعول -وعلى ضوء نصوصه نبين هياكل
السلطة القضائية –ومضامينها -كما يلي-:
أ -المفوضية القومية للخدمة القضائية:
" مجلس القضاء العالي سابقا ا"
تأتي المفوضية القومية للخدمة القضائية على رأس السلطة القضائية -وجاءت بديالا عن مجلس القضاء العالي الذي
سبق إنشاؤه في سنة 1972م بموجب المادة ( )48/1من قانون السلطة القضائية لسنة 1972م -وبقوانين
مستقلة بدءاا من سنة 1973م.-
أما إنشاء المفوضية (المفوضية القومية للخدمة القضائية) فقد كان نتاجا ا التفاقية السالم الشامل؛ إذ نصت على
إنشائه الفقرة ( )3-1-10-2منها ،وجاءت المادة ( )129من دستور السودان االنتقالي لسنة 2005م بترسيخ
ركائز إنشائه دستوريا ا مع تبيان إناطة اإلدارة العامة للقضاء القومي إليها.
وقد نصت المادة ( )4من قانون المفوضية القومية للخدمة القضائية على تشكيلها برئاسة رئيس القضاء ،وعضوية
نوابه ورئيس المحكمة العليا لجنوب السودان ووزير العدل ووزير المالية وعضوية عشرة آخرين من ذوي الخبرة
القانونية والكفاية –ذكرت المادة صفاتهم .-وفي حالة غياب رئيس القضاء عن اجتماعات المفوضية ،يتولى الرئاسة
أقدم نواب رئيس القضاء (المادة 7/5من قانون المفوضية).
وتتولى المفوضية العامة للخدمة القضائية مباشرة اختصاصاتها وفقا ا ألحكام المادة ( )5من قانونها
فيما يلي-:
(أ) إجازة السياسة العامة للسلطة القضائية.
(ب) إجازة موازنة السلطة القضائية.
(ج) التوصية بتعيين قضاة المحكمة الدستورية.
(د ) التوصية لرئيس الجمهورية بتعيين رئيس القضاء ونوابه.-
(هـ) التوصية لرئيس الجمهورية بتعيين قضاة المحكمة القومية العليا وكل قضاة السودان.-
(و ) الموافقة على توصية رئيس القضاء بعزل القضاة وفق القانون.
(ز ) التوصية بترقية القضاة وفق القانون.-
وتختص المفوضية –وفقا ا لذات المادة -بتنظيم العالقة بين السلطة القضائية القومية والسلطة القضائية
لجنوب السودان والسلطات القضائية في الواليات.-
ب -الهيكل القضائي:
وفقا ا ألحكام المادة ( )124من دستور السودان االنتقالي لسنة 2005م مقروءة مع المادة ( )10من
قانون السلطة القضائية لسنة 1986م يتكون الهيكل القضائي بالسودان من المحكمة القومية العليا
ووفقا ا ألحكام المادة ( )17من قانون السلطة القضائية لسنة 1986م فإن دوائر المحكمة العليا تتكون
من دائرة لنظر الطعون بالنقض في المسائل المدنية ودائرة لنظر الطعون بالنقض في المسائل الجنائية
ودائرة لنظر الطعون بالنقض في المسائل اإلدارية ودائرتان لنظر الطعون بالنقض في مسائل األحوال
الشخصية للمسلمين وغير المسلمين .ويقوم رئيس القضاء ورئيس المحكمة العليا بتشكيل دوائر
النقض من ثالثة قضاة فيما سوى الدائرة التي تنظر في طلبات مراجعة أحكام النقض المدنية –أو
الجنائية -والتي تنظر في تأييد األحكام الصادرة باإلعدام أو القطع فتشكل من خمسة قضاة ،-وهناك
محاكم االستئناف والمحاكم العامة ثم المحاكم الجزئية وهي على ثالث درجات أدناها محكمة القاضي
الجزئي من الدرجة الثالثة ثم محكمة القاضي الجزئي من الدرجة الثانية وأعالها محكمة القاضي
الجزئي من الدرجة األولى ،وتنظم قوانين اإلجراءات المدنية والتجارية اختصاصات تلك المحاكم كافة.
وهنالك المحاكم المتخصصة -القضاء المتخصص -وقد خولت المادة ( )125من دستور السودان
االنتقالي لسنة 2005م لرئيس القضاء تشكيل دوائر بالمحكمة العليا للنظر والفصل في المسائل التي
تحتاج إلى خبرة متخصصة ،كما خولته المادة (/10هـ) من قانون السلطة القضائية إلنشاء محاكم
أخرى بموجب أمر تأسيس يبين كيفية تكوينها وتحديد مقرها واختصاصاتها وإجراءاتها وطرق
الطعن في أحكامها -وقد استخدمت هذه المادة إلنشاء نظام القضاء المتخصص ،فأنشئت محكمة
الملكية الفكرية بالخرطوم ومحاكم البيئة بالخرطوم والخرطوم بحري ومحاكم الضرائب ومحاكم
العوائد بمختلف مدن السودان والمحكمة التجارية بالخرطوم ومحاكم األحداث التي شهدت تطوراا تقنيا ا
عاليا ا بإدخال نظام المحاكمة بوساطة الفيديو بحيث ينقل تداول الباحث االجتماعي إلى قاعة المحكمة
ا
رعاية لتوازنه النفسي.-
عن طريق الفيديو –دون أن يدرك الحدث كنه ما يجري ،وذلك
وتأتي المحاكم الشعبية في أدنى ترتيب المحاكم –وهي غير نظامية -ويبلغ عددها حوالي تسعمائة
محكمة ،ويشرف عليها القضاة الجزئيون الذين تقع في دائرة اختصاصهم تلك المحاكم.
وتختص المحاكم الشعبية بنظر الدعاوى المدنية والجنائية ذات الطبيعة البسيطة –وفقا ا ألوامر
تشكيلها -متبعة اإلجراءات اإليجازية ،وتقوم تلك المحاكم بأداء دور فاعل في تخفيف العبء على
القضاء النظامي ،ويعين قضاتها في إنجاز مهامهم خبرتهم ومعرفتهم بأحوال الناس وأعرافهم -.
ج -شروط تعيين القضاة:
هنالك شروط عامة لتعيين القضاة نصت عليها المادة ( )23من قانون السلطة القضائية وهي تتعلق
باالنتماء إلى الجنسية السودانية مع توفر كمال األهلية ،والقيود المتعلقة بأعمار من يتم تعيينهم في
الدرجات القضائية المختلفة والمؤهالت العلمية الجامعية المعترف بها فضالا عن خلو صحيفة الحالة
الجنائية –أو اإلدارية -عن كل ما يثلم بالشرف أو األمانة -حتى ولو صدر قرار بالعفو عنه –مع
ضرورة توفر السيرة الحميدة والسمعة الحسنة.-
أما الشروط الخاصة لتعيين القضاة فتختلف باختالف درجات القضاة ،فهنالك قضاة المحكمة العليا
ويشترط اختيارهم من بين قضاة محكمة االستئناف أو من الذين شغلوا وظائف أو مهن قانونية لمدة ال
تقل عن ثماني عشرة سنة ،ويشترط للتعيين من محكمة االستئناف االختيار من بين قضاة المحاكم
العامة ،أو ممن شغلوا وظائف أو مهن قانونية لمدة ال تقل عن خمس عشرة سنة ،كما يشترط للتعيين
لقضاة المحاكم العامة اختيارهم من بين قضاة الدرجة األولى ،أو ممن شغلوا وظائف أو مهن قانونية
لمدة ال تقل عن اثنتي عشرة سنة ،ويختار القضاة الجزئيين بالترقية من الدرجة الثانية إلى الدرجة
األولى ومن الدرجة الثالثة إلى الدرجة الثانية ،أو من قضاة المحاكم الجزئية من الدرجات األولى
والثانية والثالثة السابقين أو ممن شغلوا وظائف أو مهن قانونية لست سنوات للتعيين في الدرجة
األولى وألربع سنوات للتعيين للدرجة الثانية ،أو من بين المستشارين المساعدين للدرجة الثالثة-
"تفاصيل الشروط الخاصة للتعيين في المواد 25/26/27/28و 29من قانون السلطة القضائية لسنة
1986م".
د -تدريب القضاة:
نظام التدريب القضائي ضارب في القدم بالسلطة القضائية السودانية ،وأكثر القضاة –منذ العقود الماضية -نالوا
تدريبا ا قضائيا ا وبرامج تحضير للدرجات العلمية العليا –بخارج السودان بالمملكة المتحدة وأمريكا وفرنسا ومصر-
وبداخل السودان ،ومنذ عام 1995م وضعت السلطة القضائية في خطتها نظام التدريب الدائري المستمر الشامل
لجميع القضاة ووضعت وسائل تتبعها منذ وقتئذ ،وبجانب ما سبق لنا ذكره عن حملة الدرجات العليا –الدكتوراه
والماجستير والدبلوم العالي -فإن القضاة الذين ينالون تدريبا ا منتظما ا في ورش العمل والكورسـات القصيرة
والوسـيطة ،وغيرها من المنتديات العلمية القضائية –داخليا ا وخارجيا ا -يتراوح عددهم ما بين مائتين وخمسين
إلى ثالثمائة قاض سنوياا ،يزيد عددهم قليالا أو ينقص قليالا بجانب جميع قضاة المحكمة العليا الذين يشاركون في
المنتديات والسمنارات وورش العمل المنتظمة التي تقيمها إدارتا التدريب القضـائي والمكـتب الفني والبحث
العلمي
وبجانب إدارة التدريب القضائي ومناشطها اآلنفة الذكر ،فهنالك إدارة المكتب الفني والبحث العلمي ،وتناط بها
استخراج المبادئ القضائية من األحكام الصادرة من المحكمة العليا ثم نشرها في مجالت األحكام القضائية حيث
يسترشد بها القضاة في أعمالهم ،وتناط بهذه اإلدارة إعداد الدراسات والبحوث الفقهية والقانونية الالزمة للعمل
القضائي – وصياغة المنشورات القضائية وإقامة المنتديات العلمية والسمنارات والمؤتمرات التي تعالج فيها
القضايا القانونية المحلية واإلقليمية والدولية ..كما أنها تشرف على مكتبات المحاكم وتقوم بتزويدها بالمراجع
القانونية الالزمة ،فضالا عن إشرافها على المكتبة اإللكترونية وتع اد نافذة السلطة القضائية على االنترنت من أكثر
المواقع ثرا اء في الوطن العربي.-
تفاصيل أنواع الدورات التدريبية الداخلية والخارجية لألعوام من 1998م حتى سنة 2005م بكتاب {سنوات
اإلنجاز -الصادر عن السلطة القضائية صفحات .}50-44
المحور الثالث
فاعلية عدل القضاء السوداني وخصائصه
نسلط الضوء على جانبين هامين في هذا المحور أولهما عن :فاعلية
القضاء السوداني -أو مدى إعمال( :مبدأ سيادة حكم القانون)
وثانيهما عن (خصائص القضاء السوداني).-
البند األول-
فاعلية القضاء السوداني
" إعمال مبدأ سيادة حكم القانون ”
توضع الدساتير منظمة لسلطات الدولة الثالث –القضائية والتشريعية والتنفيذية -ومبينة عالئق تلك السلطات
ببعضها ،ولتبيان الحقوق الطبيعية لألفراد وضماناتها .وتخضع الدولة بسلطاتها الثالث وبأفرادها -على ح ّد
سواء -لحكم الدستور والقانون .وهذا هو ما أصطلح عليه بمبدأ "سيادة حكم القانون".
وقد بلغ التطور التشريعي الدولي المعاصر ذروته حين وضع معياراا لنظام العدالة الجنائية الفاعلة ،إعمال مبدأ
سيادة حكم القانون ،ثم وضع (حماية معايير العدالة الجنائية) كأساس لمعرفة مدى إنفاذ مبدأ سيادة حكم القانون
في الدولة المعنية -فتلك بعض مقررات المجلس االقتصادي واالجتماعي التابع لألمم المتحدة في سنة 2005م-
وعلى ضوئها نشير إلى تجذر هذا المبدأ في عقيدة أهل السودان -بمختلف أطيافهم -وفي واقعهم التشريعي
والعملي .وحيث أن الدولة ومؤسساتها هي مظنة العسف دوما ا فقد عنيت المادة ( )123/5من دستور السودان
ا
صراحة بما يلزم أجهزة الدولة ومؤسساتها بتنفيذ أحكام وأوامر المحاكم كما
االنتقالي لسنة 2005م بالنص
عنيت مواد (وثيقة الحقوق) من دستور السودان االنتقالي لسنة 2005م ،بالضمانات التي تكفل إنفاذ (مبدأ
سيادة حكم القانون)؛ إذ نصت المادة ( )31منه على أن " :الناس سواسية أمام القانون ،ولهم الحق في التمتع
بحماية القانون ،دون تمييز بينهم بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو العقيدة الدينية أو الرأي
السياسي أو األصل العرقي" ،ولما كانت كفالة الحق في اللجوء إلى القاضي الطبيعي ،-لينعم كل أحد بمحاكمة
عادلة علنية ،فقد نصت المادة ( )35من الدستور االنتقالي لسنة 2005م على أنه :
"يكفل للكافة الحق في التقاضي ،وال يجوز منع أحد من حقه في اللجوء إلى العدالة" كما نصت المادة
( )34من ذات الدستور على قواعد المحاكمة العادلة –بذات المعايير المتفق عليها دولياا ،من حيث
كيفيات كفالة (حق الدفاع) ،وقواعد اإلثبات ،وقرينة البراءة األصلية ،وغير ذلك من حقوق
المتقاضين .-هذا كله فضالا عن أن الدستور االنتقالي لسنة 2005م قد جعلت وثيقة الحقوق عهداا بين
كافة أهل السودان وحكوماتهم مع اعتبار كل الحقوق والحريات المضمنة في االتفاقيات والعهود
والمواثيق الدولية لحقوق اإلنسان والمصادقة عليها من قبل جمهورية السودان جزءاا ال يتجزأ من
ا
صراحة –بقاعدة آمرة -على أن تحمي الدولة هذه الوثيقة وتعززها وتضمنها
تلك الوثيقة ،مع النص
وتنفذها.-
ومن الناحية التطبيقية فإن إنفاذ مبدأ سيادة حكم القانون ،يتبدى جليا ا في أحكام القضاء السوداني-
الدالة على الفعالية التامة في إنفاذ المبدأ ،ونسوق للمثال ما يلي-:
أ -حكومة السودان /ضد /محمد برشم وآخرين:
كانت التهمة في هذه القضية تتمثل في التآمر بتقويض النظام الدستوري للبالد وفي جريمة إثارة
الحرب ضد الدولة –بموجب المادتين ( -)50/51من القانون الجنائي لسنة 1991م -على
التوالي .-وكان أحد المتهمين (س .ح) وزير الداخلية األسبق ،وهو أحد أبرز المعارضين
للحكومة ،فوجهت إليه التهمة بالمشاركة مع حركة التمرد ) (S.P.L.Aفي أعمال عسكرية ضد
القوات المسلحة السودانية ،فأصدر القضاء السوداني قراره في الدعوى الجنائية بشطب االتهام
ضد وزير الداخلية األسبق ،كما أصدرت المحكمة العليا تعديل األحكام الصادرة باإلدانة وإلغاء
عقوبات اإلعدام .وفي ذلك برهان على عدم تأثر القضاء بأهواء السلطة السياسية.
ب -قضية (حكومة السودان/ضد/علي أبو عنجة الموت وآخرين)
{وهي منشورة في مجلة األحكام القضائية لسنة 1991م صفحة 75وما بعدها}
القضية اشتهرت في أوائل التسعينات من القرن العشرين بقضية الضعين ورقمها /غ
إ116/1992/م.-
وقد وجهت إلى المتهمين تهمة تحت المادة ( )55من القانون الجنائي لسنة 1991م (إفشاء
معلومات رسمية سرية متعلقة بشئون الدولة دون إذن) ،كما وجهت إليهم تهمة تحت المادة ()50
من ذات القانون (إتيان أفعال بقصد تقويض النظام الدستوري للبالد أو بقصد تعريض استقالل البالد
ووحدتها للخطر) ،وكانت المعلومات التي ت ام إفشاؤها متعلقة بمسائل أمنية دقيقة وبالغة الخطر،
ومن ث ام كانت األجهزة األمنية بالدولة حريصة كل الحرص على تحصيل قرار بإدانة المتهمين
ومعاقبتهم بأشد العقوبات ردعا ا.
أصدرت محكمة أول درجة حكمها بإدانة المتهمين تحت المادة ( )55المذكورة ،وقضت بمعاقبتهم
بالسجن لمدد متفاوتة ،غير أن الدائرة المختصة بنظر الطعن بالمحكمة العليا -برئاسة رئيس
القضاء -قد أصدرت حكمها بإلغاء اإلدانات والعقوبات كافة والحكم بتبرئة المتهمين مما نسب إليهم.-
لقد كان إفشاء تلك المعلومات السرية أثناء اشتعال أوار الحرب بين الحكومة والمتمردين ،لذلك
ع ابرت هيئة االتهام بأن واقعة االتهام من شأنها إجهاض مفاوضات السالم وتأجيج فتيل الحرب من
جديد -ولوال صالبة القضاء السوداني وإيمانه الراسخ بمبدأ سيادة حكم القانون ،لما صدر ذلك القرار
بالبراءة في ظل تلك الظروف ورغم ذلك الحرص من األجهزة األمنية على ضرورة ردع المتهمين،
وحقا ا فإن (سيادة حكم القانون) يتبدى إنفاذه بجالء عندما تكون أحكام القضاء نافذة بهذا النحو
اآلنف ،في حق الدولة ومؤسساتها وفي حق النافذين فيها.
ج -محاكمة عمر محمد الطيب وآخرين:
(قضية ترحيل اليهود الفالشا إلى إسرائيل)
المتهم هو نائب رئيس الجمهورية األسبق ،وقد كان وقت تورطه في التهم محل المحاكمة رئيسا ا لجهاز أمن
الدولة ،حيث تسللت جماعات من يهود الفالشا من أثيوبيا إلى السودان وسافرت إلى إسرائيل بعضهم عن طريق
الخرطوم نيروبي وبعضهم من مطار مهجور قرب أركويت بشرق السودان وبعضهم سافروا علنا ا تحت ستار
برنامج إعادة توطين الالجئين التابع لمعتمد شئون الالجئين باألمم المتحدة ،وكانت الشبكة العاملة على الترحيل
تحت إشراف وكالة االستخبارات األمريكية ) (C.I.Aوجهاز االستخبارات اإلسرائيلي (الموساد) .في البدء عند
انكشاف المخطط قام المتهم المذكور باستدعاء السفير األمريكي بالخرطوم وإخطاره برفض السودان لترحيل
اليهود الفالشا عبر أراضيه وإخطاره بخطورة التورط األمريكي في العملية ،فاعتذر له السفير األمريكي .غير أن
المتهم العتبارات ذكر في دفاعه أنها (سياسية) قام بعدئذ باإلشراف بنفسه على عمليات الترحيل في تكتم شديد.
بلغ عدد المرحلين ( )6150ستة اآلف ومائة وخمسون يهوديا ا .في أمسية 4/5/1985م غادرت الرحلة الثامنة
والعشرون مطار الخرطوم فأذاعت هيئة اإلذاعة البريطانية في نشرة األخبار المسائية تفاصيل عملية ترحيل
اليهود الفالشا من السودان إلى إسرائيل عبر جسر جوي مباشر ،فتوقفت عمليات الترحيل أثر ذلك .بعئذ حضر
(جورج بوش-األب) إلى السودان -وهو يومئذ نائب الرئيس األمريكي -واتفق مع مضيفه (المتهم) على استئناف
ترحيل اليهود الفالشا إلى إسرائيل بطائرات أمريكية تهبط في مطار العزازة تحت ستار إحضار مواد إغاثة .وبعد
سقوط نظام حكم الرئيس نميري قدم المتهم للمحاكمة تحت تسع تهم من قانون عقوبات السودان لسنة 1983م
منها تهمة (الخيانة والتجسس والثراء الحرام والتآمر مع دولة أجنبية – وتهم أخرى.)-
لقد انتهجت المحكمة وهيئتا االتهام والدفاع نهجا ا مهنيا ا رائعا ا وفريداا في عرض القضية بصبر ودقة
بلوغا ا إلى عدل القضاء ،مما جعل المحكمة تشيد بهيئة الدفاع ألنها لم تدخر صبراا وال جهداا وال علما ا في
سبيل القيام بواجبها المقدس في الدفاع عن المتهمين ،دون االلتفات إلى ما قد يصيبهم من جراء
دفاعهم عن مواقف ووقائع وأشخاص يعلمون سلفا ا موقف الرأي العام حيالهم ،وقالت المحكمة بأنه
يكفي هيئة الدفاع فخراا أنها اجتازت االمتحان الحقيقي للمحامي الملتزم بأخالقيات مهنته ،وهو التصدي
للدفاع عن المتهم الذي حكم الرأي العام بإدانته وتجريمه قبل مثوله أمام المحكمة.
ولئن كانت تلك اإلشادة مستحقة لهيئة الدفاع ،فإن اإلشادة مستحقة للمحكمة -وللقضاء السوداني -الذي
يشق طريقه خالل المحاكمة باستقالل وحيدة كاملين ،دون أن يعبأ أو يأبه أو يتأثر بالرأي العام
ومشاعره المعبأة والمتحفزة للتهليل لسماع إدانات للمتهمين -بل ولحقبة كاملة من نظام حكم آفل.- .
راجع نص الحكم في كتاب أشهر المحاكمات السياسية في السودان -إعداد هنري رياض طبعة دار الجيل
سنة 1987م صفحة 56وما بعدها
د -قضية (لجنة جامع الخليفة عبد هللا /ضد /معتمد العاصمة القومية):
أصدر معتمد العاصمة القومية –الخرطوم -قراراً إدارياً بتكوين لجنة إلدارة مسجد الخليفة عبد هللا بأم درمان دون
إخطار اللجنة المعتمدة من الشئون الدينية واألوقاف ،وقد نعى الطاعنون بأن معتمد العاصمة القومية ال يملك الحق في
ذلك وبأن في فعله إساءة الستعمال السلطة ،فأصدرت المحكمة العليا السودانية حكمها بإلغاء القرار الصادر من معتمد
العاصمة القومية .
هـ -قضية (التجاني محمد جعفر /ضد /رئيس الجمهورية):
{ رقم م ع/ط م20/1997/م}
كان الطاعن -التجاني محمد جعفر -يعمل في وظيفة مسجل بجامعة أم درمان اإلسالمية .بتوصية من مجلس الجامعة
ثم من وزير الدولة بوزارة العمل واإلصالح اإلداري ،أصدر مجلس الوزراء قراره رقم (506/1995م) بإحالة
الطاعن مع آخرين للتقاعد بالمعاش وبإلغاء الوظيفة استناداً لنص المادة (/50د) من قانون الخدمة المدنية –بعد دراسة
وجوه الطعن أصدرت المحكمة العليا حكمها بإلغاء القرار المطعون فيه.-
حيثيات الحكم في كتاب أشهر القضايا اإلدارية والدستورية في السودان -إعداد وترتيب هنري رياض وفاروق أحمد
إبراهيم طبعة دار الجيل سنة 1988م صفحة 226وما بعدها.
و -قضية (مبارك على جاد هللا /ضد /وزير العدل -النائب العام الخرطوم)
{ رقم م ع/ط إ1/2001/م}
الطاعن مبارك علي جاد هللا – مواطن ترشح النتخابات المجلس الوطني – البرلمان -بدائرة المتمة-
والية نهر النيل -تقدم بشكوى لدى نيابة االنتخابات في 18/12/2000م ضد المرشح المنافس (الطيب
إبراهيم محمد خير – مستشار رئيس الجمهورية ووزير داخلية سابق ووزير في وزارات أخرى ومن
النافذين في الدولة) (ود .مجذوب الخليفة أحمد والي والية الخرطوم –وقتئذ) (ومحمد الماحي محمد
محافظ المتمة) ،وتلخصت التهمة في ارتكاب المذكورين لمخالفة ممارسة األساليب الفاسدة في
االنتخابات -مخالفين أحكام المادة ( )5من قانون منع األساليب الفاسدة مقروءة مع المادة ( )3من
القواعد العامة لالنتخابات ،بدعوى أنهم استخدموا سيارات الدولة في الحملة االنتخابية الخاصة
بالمرشح الطيب إبراهيم محمد خير وأنهم وعدوا الناخبين بتقديم خدمات وتبرعات.
قام وكيل النيابة برفض فتح الدعوى الجنائية بدعوى عدم الحصول على إذن لفتح الدعوى وفقا ا ألحكام
المادة ( )35من قانون اإلجراءات الجنائية لسنة 1991م ،تأيد القرار من وزير العدل ،فتقدم الطاعن
بطعن إداري إلى المحكمة العليا السودانية التي أصدرت حكمها بإلغاء قرار وزير العدل.
والحالة مثال صادق إلعمال مبدأ (المساواة أمام القانون) كما أنه ينبئ عن إنفاذ مبدأ سيادة حكم
القانون؛ حيث صدر القرار في مواجهة النافذين في السلطة التنفيذية -انتصاراا لحق المواطن العادي.-
ز -قضية جوزيف قرنق وعز الدين علي عامر
/ضد/
مجلس السيادة " رئاسة الجمهورية اآلن"
الجمعية التأسيسية "البرلمان"
النائب العام
في يوم 22/11/1995م أجاز البرلمان السوداني باإلجماع تعديالت في دستور السودان المؤقت المعدل في سنة
1964م بإضافة حكم شرطي لنص المادة ( )5/2من الدستور المذكور وكان مفاد التعديل هو منع الترويج
للفكر الشيوعي سواء كان محليا ا أو دوليااُُ ،ومنع الترويج لإللحاد ومنع السعي لقلب نظام الحكم بأية وسيلة
غير مشروعة.
كما أجاز البرلمان في ذات التاريخ إضافة حكم شرطي في بند جديد بعد البند { }2من المادة ( -)5مفاده عدم
مشروعية أية منظمة تنطوي أهدافها أو وسائلها على مخالفة الحكم الشرطي المضاف بالبند { }2على أن
يكون للبرلمان إصدار أي تشريع يراه الزما ا لتنفيذ أحكام ذلك النص المضاف .-وبالفعل أصدر البرلمان في يوم
8/12/1965م تعديالا للمادة ( )46من ذات الدستور المذكور ،يقضي بعدم أهلية األشخاص الذين تنطبق
عليهم التعديالت المضافة باألحكام الشرطية لعضوية البرلمان ،فسقطت –بحكم الدستور -عضوية أعضاء
الحزب الشيوعي في الجمعية التأسيسية (البرلمان) ،وطرد من البرلمان كل من( :محمد إبراهيم نقد وعز الدين
على عامر وحسن الطاهر زروق وعمر مصطفى المكي والرشيد نايل وعبد الرحمن الوسيلة وجوزيف قرنق
والطاهر عبد الباسط).
لم يستسلم الحزب الشيوعي بذلك المصير ،بل رفع دعوى دستورية أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا -وفي
وقتها لم تكن هناك محكمة دستورية مستقلة كما هو اليوم -فأصدرت المحكمة العليا -الدائرة الدستورية حكمها في
22/12/1966م بتقرير بطالن التعديالت الدستورية .فقام رئيس مجلس السيادة الزعيم إسماعيل األزهري
بالتعقيب على الحكم الدستوري بكلمات مفادها عدم اختصاص المحكمة العليا في النظر فيما تصدره الجمعية
التأسيسية (البرلمان) من تعديالت دستورية .وعلى اثر حديث رئيس مجلس السيادة قدا م رئيس القضاء السوداني
(بابكر عوض هللا) استقالته باعتبار أن ما صدر من رئيس مجلس السيادة يعتبر انتهاكا ا لمبدأ استقالل القضاء.-
فتلك هي المحكمة العليا التي توارث القضاء السوداني تألقه كابراَُا عن كابر ،وذلك هو رئيس القضاء الذي ال
يتوانى من تقديم استقالته ألدنى تعقيب على حكم القضاء يصدره رئيس مجلس السيادة (رئيس الجمهورية حاليا ا) فيا
ترى أيهما أعجب وأمعن في إنفاذ سيادة حكم القانون وفي صيانة مبدأ استقالل القضاء-؟.
إن األمثلة التي تتبدى من خاللها إعمال القضاء السوداني لمبدأ سيادة حكم القانون ،والتي تتجلى من خاللها تنزيل
مبدأ استقالل القضاء السوداني ال تكاد تحصى -ونكتفي منها بهذا القدر وال نداعي أن ما سقناه منها ،هي أكثرها
برهانا ا وأجالها بيانا ا.-
راجع أسباب الحكم بكاملها في كتاب أشهر القضايا الدستورية في السودان – إعداد وترتيب هنري رياض -طبعة
دار الجيل سنة 1984م صفحة 9وما بعدها.-
البند الثاني
خصائص القضاء السوداني
المصدر التاريخي للتشريعات السودانية -أو قل مرجعيتها -هو ما يضفي خصوصية ألحكام القضاء
السوداني ،ولعل أبرز تلك الخصائص تتمثل فيما يلي-:
أوالا :المرونة
تتبدى المرونة بصفة عامة فيما يخوله التشريع –الدستور والقانون -لرئيس القضاء من إصدار
منشورات قضائية ضمانا ا لحسن سير العدالة ،ترسيخا ا لما استقرت عليه التشريعات السودانية وآخرها
دستور السودان االنتقالي لسنة 2005م ،حيث جاءت المادة ( )158منه بتخويل رئيس القضاء إصدار
منشورات قضائية لضمان إعمال أحكام المادة ( )156من ذات الدستور ،وإلرشاد المحاكم إلى كيفية
مراعاة المبادئ المقررة لتصريف العدالة بالعاصمة القومية .-علما ا بأن المنشورات التي يصدرها
رئيس القضاء -بهذا التفويض الدستوري -تأخذ حجية القانون في اإللزام.-
أما بالنسبة للنصوص القانونية ،فهناك المادة ( )212من قانون اإلجراءات الجنائية لسنة 1991م
التي تخول لرئيس القضاء إصدار قواعد من شأنها إرشاد القضاة في المسائل القضائية.-
وهنالك السوابق القضائية ووفقا ا ألحكام المادة (/3خامسا ا) من قانون أصول األحكام القضائية لسنة
1983م فإن القاضي يسترشد بها –فيما ال نص فيه ،-وقد جاءت المادة ( )6/2من قانون
اإلجراءات المدنية لسنة 1983م –بصيغة آمرة-بأن يطبق القاضي المبادئ التي استقرت قضا اء في
السودان عندما ال يكون هناك نص تشريعي للمسألة ،-وال يخفى أن هذا النظام يكون عونا ا للقاضي،
حيث يجد ضالته في هذا المصدر االحتياطي الخصيب.-
ومن مظاهر المرونة إعمال العرف ،وقد أحالت إلى إعماله المادة ( )5/2من دستور السودان
االنتقالي لسنة 2005م ،والمادة (/3سادسا ا) من قانون أصول األحكام القضائية لسنة 1983م،
والمادة ( )6من قانون اإلجراءات المدنية لسنة 1983م ،والمادة (/5ب) من ذات القانون ،ومن
قواعد الفقه المنصوص عليها في قوانين أخرى قاعدة (العادة محكمة) –راجع المادة ( )5من
قانون المعامالت المدنية لسنة 1984م والمادة (/6د) من قانون األحوال الشخصية للمسلمين لسنة
1991م ،كما أن هناك مواد أخرى عديدة مبعثرة ضمن أحكام هذين القانونين اآلخرين وفي قوانين
أخرى.
وهذا التوسع في مرجعية العرف يجعل من القاضي السوداني خبيراا مكينا ا في معرفة أحوال الناس؛
حيث أن العرف مما يدخل في معنى (العلم القضائي) )( The Judicial Noticeفهو من
الوقائع التي ال تحتاج إلى إثبات كما هو معلوم قانونا ا.
ويمثل العرف تعبيراا صادقا ا ألصالة المرجعية القضائية التي تبنى عليها األحكام ،فضالا عما تلقاه
األحكام العرفية من رضاء وتسليم من المتخاصمين .-وتحظى محاكم المدن واألرياف بنصيب وافر
من إعمال األعراف المحلية ،فتؤدي بذلك رسالتها العدلية بما يبعث الطمأنينة في أوصال المجتمع.-
ومن مظاهر المرونة التي ورثها القضاء السوداني ،ما خولته المادة الرابعة من قانون القضاء
المدني لسنة 1900م حيث كانت تقضي بوجوب الفصل في المنازعات وفقا ا لمقتضيات العدالة
واإلنصاف والوجدان السليم في الحاالت التي لم يرد بشأنها نص تشريعي في القانون .وكان االتجاه
العام للقضاء السوداني ،إبان العقود األولى من القرن العشرين ،هو تفسير عبارة "مقتضيات
العدالة واإلنصاف" بما استقر عليه القضاء اإلنجليزي ،باعتباره المصدر التاريخي للقانون
المذكور ،بينما ذهب فريق آخر إلى اتجاه مغاير بتفسير تلك العبارة بما استقر عليه التشريع
والقضاء الهنديين ،باعتبار أن قانون القضاء المدني كان مستمداا من القانون الهندي بدرجة شملت
استعارة األلفاظ والتعبيرات منه ،ثم ظهر رأي ثالث في نهايات العقد السادس من ذات القرن يدعو
إلى سدّ النقص من القانون المصري لتوفر وجوه الشبه بين البلدين في الدين واللغة والعادات
راجع كتاب قانون اإلجراءات المدنية السوداني – الدعوى -بروفسير محمد الشيخ عمر الجزء
األول من صفحة 5حتى صفحة – 8طبعة 1980م.-
وخالل العقد الثامن من ذات القرن ،ذهب فريق من قضاة المحكمة العليا إلى تفسير تلك العبارة
بأنها تعني قواعد وأحكام الشريعة اإلسالمية.
ومنذ صدور قانون القضاء المدني لسنة 1900م -ثم قانون القضاء المدني لسنة 1929م وحتى
صدور قانون اإلجراءات المدنية لسنة 1974م ،ظلت تلك العبارات على حالها تضفي ثرا اء على
اإلرث القضائي السوداني ،وقد جاءت المادة ( )6من هذا القانون األخير بتعديل طفيف لما كان
موروثاا ،حيث نصت فقرتها الثانية على تطبيق المبادئ التي استقرت قضا اء في السودان ومبادئ
الشريعة اإلسالمية والعرف والوجدان السليم في المسائل التي ال يحكمها نص تشريعي ،فظلت
تلك المرونة التشريعية باقية ،ثم امتدت إلى قانون اإلجراءات المدنية لسنة 1983م -السارية
حتى اليوم -فكان نتاج ذلك هو صون القضاء السوداني -على مر العصور -من دواعي الجمود
والخمود ،فضالا عن أن التعديل الذي طرأ في سنة 1974م –والذي ظل ساريا ا في قانون
اإلجراءات المدنية لسنة 1983م -قد نأى بأحكام القضاء عن التباين والتنافر في الرؤى.-
ومن وجوه المرونة ما يكفله تشريعنا من سلطة طبيعية للقاضي ،فال تضحية بالجوهر تقديسا ا
للشكل ،وقد نصت المادة ( )303/2من قانون اإلجراءات المدنية لسنة 1983م على أن
اإلجراءات المنصوص عليها في ذلك القانون ،ال تعتبر مقيدة لسلطة المحكمة الطبيعية في إصدار
األوامر التي تراها ضرورية لتحقيق العدالة ،أو لمنع سوء استقالل إجراءات المحكمة.-
وعلى ذات النسق عنيت المادة (/70ب) من ذات القانون بالنص على حالة من حاالت المرونة
المخولة للقضاء السوداني ،حيث أجازت المادة المذكورة للمحكمة –عند الضرورة -م اد
الميعاد المعين التخاذ أي إجراء سواء كان ذلك قبل أو بعد انقضاء األجل المحدد بموجب
أحكام هذا القانون ،والقاضي وحده هو الذي يقدر مدى توفر حالة الضرورة المنصوص
عليها ،وهذه المرونة المكفولة للقاضي ترفع عنه كثيراا من الحرج ،فيعني بالجوهر
متجاوزاا الشكل بلوغا ا إلى عدل القضاء.-
ثانيا ا :الحياد المطلق:
ال يكاد يخلو دستور معاصر من تقرير مبدأ (حياد القاضي) ،غير أن هذا المبدأ –في القضاء
السوداني -يأخذ بعداا يتجاوز مجرد التنظير الفلسفي ،ليبلغ إلى عوالي (السمة الواقعية)
العتبارات عديدة نورد منها ما يلي-:
الموروث الحضاري الذي اصطبغ به القاضي السوداني ،منذ أكثر من ألفي عام -حضارة كرمة،-
حيث أثبتت دراسات حفريات اآلثار أن القاضي في تلك الحضارة كان يحني رأسه إلى
األرض ،في مجلس القضاء ،-فال يرفع عينيه مطلقاا ،ومن ثم فال يستبين شخصيات
الخصوم ،بحيث ال يميز من كان منهم خفيراا ومن كان منهم وزيراا-أو نحو ذلك ،-وكان ذلك
هو مبتدأ ميالد مبدأ المساواة أمام القضاء ،-وقد تواصل نقل ذلك اإلرث جيالا بعد جيل.
التدقيق المتناهي في صفات وخصائل من يتولى القضاء .ونشير هنا إلى أحكام المادة ( )14من الئحة تنظيم
العمل القضائي لسنة 1996م -وهي ذات المادة ( )11من الالئحة القديمة -ومضامينها موروثة منذ عهد
الممالك اإلسالمية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر–الميالديين -وبموجبها فعلى القاضي أن
يتوخى في جميع األوقات العدالة والنزاهة ،وأن يكون عفيفا ا وقوراا ،وأن يلتزم في سلوكه بكل ما يعلي
همته ويحفظ كرامته ،ويصون سمعته وسمعة القضاء .وأن يبتعد تبعا ا لذلك عن كل ما يشينه أو يحط من
قدر منصبه ،أو يشكك في عمله وأمانته ونزاهته ،أو يشين القضاء ،كما أن عليه أن يؤدي عمله بإخالص
وتفان ،وأن يراعي المساواة في المعاملة بين الخصوم ،والحلم في أدائه ،-وأن يحرص على سرعة البت
ا
خاصة إذا كانت ذات صفة مستعجلة ،-وأن يتجنب استغالل سلطته أو نفوذه
في القضايا الموكولة إليه،
بطلب أية منفعة لنفسه أو ألي من أفراد عائلته أو معارفه أو لدفع أي ضرر عنها أو عنهم ،أو إليقاع أي
ضرر على أي شخص آخر ،-وأن يسلك في جميع األوقات السلوك الالئق بمركزه ووظيفته ،وأن يؤدي
واجباته على الوجه األكمل ،وأن يلتزم بالقانون في أحكامه وفي تصرفاته ،-كما أن عليه التنحي عن نظر
أي نزاع له فيه أية مصلحة مهما كانت ،أو كان قد سبق له أن نظره ،أو أدلى فيه برأي أو ترافع أو أوكل
فيه كمحام ألي من أطراف ذلك النزاع ،-ويجب عليه أن يرتدي أثناء العمل الزي الرسمي للقضاة –إن
وجد -أو الزي الالئق .-وقد نصت الفقرة الثانية من ذات المادة على أنه ال يجوز للقاضي إفشاء أية
معلومات وقف عليها بسبب مهنته ،ما لم تكن تلك المعلومات قد نشرت نتيجة لعلنية اإلجراءات ،-كما
نصت الفقرة الثالثة منها على أنه ال يجوز للقاضي أن يشتري باسمه أو باسم أي من أفراد عائلته أو بأي
اسم مستعار محل الحق المتنازع عليه أمام المحاكم.
وقد جاءت المادة ( )15من ذات الالئحة بتحريم قبول القاضي للهدايا من الخصوم أو ذويهم ،وبتحريم اإلذن
ألي من أفراد عائلته في قبولها ،ثم جاءت المادة ( )16من ذات الالئحة بتحريم ممارسة التجارة على
القاضي ،بل جاءت المادة ( )17من ذات الالئحة بمنع القاضي من االعتياد على اإلستدانة ،وذلك نأيا ا به
عن الشبهات كافة.-
ثالثا ا :الصلح و والعفو:
الصلح والعفو قرينان وفلسفتهما متجذرة في وجدان األمة السودانية ،ففي القرآن الكريم أكثر
وتحض عليه ،ومنها قوله تعالى " :فمن عفا وأصلح فأجره على
من ثالثين آية تمتدح الصلح
ا
ا
ا
إيمانية ترقى به إلى درجة التقوى ،قال تعالى" :
قيمة
هللا " .وآيات القرآن تجعل من الصلح
فاتقوا هللا وأصلحوا ذات بينكم " .-وهذا مجال واسع نكتفي منه بهذا القدر.-
وتخول المرجعية التشريعية للقضاء السوداني أولوية السعي بالصلح ،عند نظر الدعاوى ابتدا اء
أحيانا ا وبعد تمام الثبوت أحيانا ا أخرى ،حسبما يقتضيه نوع الدعوى .وقد فطن القضاء السوداني
ألهمية الصلح في فض المنازعات بالطرائق المثلى وبما يبعث الطمأنينة في المجتمع ،منذ أكثر
من ستة قرون -من بدايات عهد الممالك اإلسالمية كما ألمعنا إليه من قبل ،-حيث كان هناك نظام
"قضاء الصلح" ،وتواصل ذلك الموروث إلى عصرنا الحاضر ،فهنالك "لجان الصلح" ببعض
المحاكم –دوائر األسرة -وتشكل من ذوي األهلية والمعرفة بأحوال الناس وأعرافهم ،وهنالك من
الصلح ما يناط بالقاضي ،فتبسط فضيلة الصلح ظالله الوارفة ،فال يكاد يخلو منها صنو دعوى
من أنواع األقضية ،بما في ذلك الدعاوى الجنائية الخطيرة – كالقصاص والجراح.-
وأصل إباحة الصلح والعفو في تلك الدعاوى ،هو اشتراك الحقوق فيها –والحق الخاص فيها أغلب،-
لذلك وردت آية القصاص في القرآن الكريم ،مقرونة بالحض على العفو " :فمن عفي له من أخيه
ا
مقرونة بالحض على العفو " :وجزاء سيئة
شئ فإتباع بالمعروف" كما وردت آية مماثلة في الجزاء
سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على هللا " ويثبت الحق في طلب القصاص -بعد تمام اإلدانة-
ابتداء للمجني
ابتدا اء للمجني عليه ،ثم ينتقل إلى أوليائه ،.كما يثبت حق العفو الذي يسقط القصاص
ا
عليه ،في حالة الجراح العمد ،وألولياء الدم –ورثة القتيل -في حالة القتل العمد ولولي المجني عليه
–بعد صدور قرار اإلدانة -في حالة العمد من القتل أو الجراح ،أن يطالب بالقصاص أو بالدية ،كما أن
له المصالحة على مال أو العفو الشامل ،وله في حالتي شبه العمد والخطأ من القتل أو الجراح،
المطالبة بالدية أو المصالحة أو العفو.
ودية النفس مائة من اإلبل ،أو ما يعادل قيمتها من النقود –وفي األعضاء ديات ناقصة مقدرة -وفي
بعضها وبعض الجراح ديات غير مقدرة -يقدرها القاضي باالستعانة بالخبرة الطبية -ورئيس القضاء
وحده هو المناط به تقدير قيمة الديات بالنقود ،بعد التشاور مع الجهات المختصة –وفقا ا لمقتضيات
المادة ( )42/1من القانون الجنائي لسنة 1991م ،-وهذا التفويض المخول لرئيس القضاء من شأنه
إضفاء المرونة والخصوصية للقضاء السوداني.-
ويولي القضاء السوداني أولوية لتلك المرجعيات عند نظره لألقضية ،يعينه في تفعيلها الموروث
الثقافي ألطياف األمة السودانية ،حيث تتحلى جميعها بقيم اإليثار والمروءة والشهامة ،وذلك ما
يضفي تميزاا لفلسفة الصلح والعفو في بالدنا من وجهين أولهما :كثافة تنزيله في ارض الواقع،
وثانيهما :تنقية النفوس بما يمحو أثر الجريمة من النفوس ،وال يكاد يمضي أسبوع واحد دون أن
يعرض على المحكمة العليا السودانية – الدائرة الجنائية -طلبات للتنازل -بطيب نفس -عن القصاص
في دعاوى سبق فيها الحكم على المدانين باإلعدام واكتسبت أحكامها صفة االنتهائية .ومن مئات
النماذج في هذا الصدد نعرض مثاالا واحداا – بقدر ما يقتضيه المقام.-
ففي محاكمة (حامد سعدان حامد وآخر ) ،أيدت المحكمة العليا القومية اإلدانة والعقوبة الصادرة
باإلعدام شنقا ا حتى الموت قصاصاا ،في مواجهة المدانين حامد سعدان حامد والخير محمد سليمان
تحت المادة ( )21/130/1من القانون الجنائي لسنة 1991م .وبتاريخ 30/12/2008م مثل أولياء
دم القتيل موسى محمد ضو البيت ،وهما والده محمد ضو البيت األزيرق ووالدته حواء خميس
البدوي طبقا ا لإلعالم الشرعي رقم 681/2007م الصادر من محكمة األبيض لألحوال الشخصية
وتنازال عن القصاص لوجه هللا تعالى ،دون أن يقترن هذا التنازل بالمطالبة بالدية أو المصالحة على
مال وفق ما تخوله لهما أحكام المادة ( )32/4من القانون الجنائي لسنة 1991م.-
لهذا وعمالا بنص المادة (/31ب) من القانون الجنائي لسنة 1991م يتعين إسقاط القصاص في
مواجهة المدانين المذكورين ومعاقبة كل منهما تعزيراا بالسجن لمدة أربع سنوات اعتباراا من تاريخ
إيداعهما الحراسة في 21/9/2006م – انتهى -وبنا اء على هذه الحيثيات صدر األمر النهائي بقبول
التنازل وبإلغاء عقوبة اإلعدام شنقا ا حتى الموت قصاصا ا في مواجهة المدانين المذكورين وبالحكم
عليهما بالسجن للمدة المذكورة.-
وإذا كان العفو عن القصاص مقابل الدية ،فإن (العاقلة) تتعاون في أداء الدية إذا كانت الجريمة من
قبيل شبه العمد أو الخطأ من القتل أو الجراح ،ويدخل في معنى العاقلة أفراد العصبة من أقرباء
الجاني أو الجهة المؤمن لديها ،أو الجهة المتضامنة ماليا ا معه ،أو الجهة التي يعمل بها إذا كانت
جنايته في سياق عمله
ا
ا
فاعلة للمحور التصالحي من
ووسيلة
وال مراء في أن (نظام العاقلة) يعدا أنموذجا ا تكافليا ا رائعاا،
العدالة المجتمعية -
رابعااُا :الخبرة التراكمية في ترسيخ قواعد العدالة المجتمعية:
" تسوية النزاعات القبلية”
أفاد اإلنجليز من الموروث السوداني المتجذر في مجال العدالة المجتمعية ،مدركين أهميتها في حل
النزاعات والفصل فيها ،الستقرار المجتمع السوداني المكون من األعراق المختلفة والقبائل المتعددة
المتنافسة على الموارد المادية الشحيحة ،سواء كانت موارد المياه أو المرعى أو الزراعة أو
االحتطاب ،حيث قام قاضي المحكمة العليا (شارلس سيسل كمنجز) بتدوين مذكرة في عام 1939م
حول قضية مشاجرة بين قبيلتي العميرية والمغاوير ،أرشد فيها لبعض طرائق الفصل في النزاعات
القبلية ،فلما تولى رئاسة القضاء –والسكرتير القضائي -أصدر تعديالا لمذكرته في سنة 1950م
لتتناسب مع أصول التقاضي التي تعين على درك حقائق الوقائع بأفضل السبل ،ثم أصدر في
15/6/1952م منشور المحاكم الجنائية رقم ( ،)18وقد عني فيه بالتوجيه بمراعاة األعراف القبلية
المتعلقة بالدية مع عدم اإلخالل بأحكام قانون اإلجراءات الجنائية ،وذلك إلدراكه لما يتمخض عن
ذلك المنهج من تطييب للخواطر.
لقد تواترت تطبيقات المحاكم السودانية للقواعد العرفية التصالحية بلوغا ا إلى مفهوم العدالة المجتمعية ،ففي
النزاع القبلي الذي نشب بوالية كردفان (قبيلة أوالد هيبان من المسيرية الزرق ،وقبيلة المتانين من المسيرية
الفاليته) ،وكان سببه تحرشات بين الرعاة من القبيلتين حول المرعى وموارد المياه ،وأسفرت المعركة عن
سبعة قتلى ،ثالثة من قبيلة المتانين وأربعة من قبيلة أوالد هيبان ،وت ام تقدير الخسائر –على ضوء إقرارات
متبادلة بين الطرفين بمبلغ 15.643.200جنيهاا ،فتحت بها دعوى مدنية برقم /ق م110/2001/م ،وكلف
قاضي المحكمة العامة بالفولة -والية غرب كردفان-بإرساء دعائم الصلح وصياغة مقرراته ،حيث أنجز مهمته
ابتداء من 11/8/2001م حتى 14/8/2001م وقد تم تنفيذ الصلح تحت رقم
خالل أربعة أيام فقط،
ا
44/2001م وأقفلت ملفات التعويض وكافة مقررات الصلح بتمام التنفيذ في 21/10/2001م فعادت الحياة
بين القبيلتين إلى صفائها.-
وفي النزاع القبلي بين قبيلة الرزيقات بجنوب دارفور وقبيلة المسيرية بجنوب كردفان ،قام بعض أبناء
الرزيقات بنصب كمين ألبناء قبيلة المسيرية ،فأسفر االشتباك عن خمسين قتيالا وثمانية وعشرين جريحا ا من
قبيلة الرزيقات ،وعن أحد وعشرين قتيالا وستة عشر جريحا ا من قبيلة المسيرية -فتحت الدعوى الجنائية برقم/
ع إ30/2007/م في 26/5/2007م ،وبحضور عدد من أمراء قبيلة المسيرية وعمد قبيلة الرزيقات أجري
الصلح أمام قاضي المحكمة الجنائية العامة باألبيض ،وكان من مقرراته عفو أفراد القبيلتين عن بعضهما عفواا
خالصاا ،والتزامهم بعدم الثأر وبترسيم الحدود بين القبيلتين وتسوية الديات والخسائر وفقا ا لألعراف السائدة بما
يرفع الغبن ويجبر الضرر ويطيب الخواطر ،وقدرت تلك الخسائر وتعويضاتها ،وسلمت مقررات الصلح إلى
رئيس الجهاز القضائي باألبيض الذي كلاف قاضيا ا بتنفيذها على ضوء أحكام قانوني اإلجراءات المدنية
والجنائية.-
وفي الدعوى الجنائية المرفوعة أمام محكمة الجنايات العامة باألبيض -شمال كردفان -تحت رقم /525/غ
إ2007/م ،تلخصت الوقائع الثابتة في قيام مجهول بسرقة خمسة رءوس من الضأن من قبيلة المجانين ،فتتبع
"الفزع" -أي أفراد من هذه القبيلة أثر السارق والبهائم ،إلسترداد المال المسروق ،وخالل اقتفائهم لألثر هجم
عليهم بعض أفراد قبيلة دار حامد ،فأسفرت المعركة بين الفريقين عن ستة وأربعين قتيالا من أبناء القبيلتين،
بواقع ثالثة وعشرين قتيالا من كل قبيلة ،كما أسفرت المعركة عن تسعة وعشرين مصابا ا من أبناء قبيلة دار
حامد ،وعن أحد وثالثين مصابا ا من أبناء قبيلة المجانين.
سلكت المحكمة في إجراءات الدعوى على بصيرة من األعراف المحلية ،دونما إغفال ألصول التقاضي ،وقد
أعانه على التسوية بعض أهل الحكمة من أعيان القبيلتين وآخرين من النافذة كلمتهم ،فكللت الجهود بإخماد نار
الفتنة ،وبنزع ما في الصدور من الغل ،وت ام حصر الخسائر البشرية والمادية ،مع االستعانة بالخبرة الطبية في
ودونت
تقدير نسب العجز واألضرار البدنية بلوغا ا إلى تقدير "حكومة العدل" -تعويضات اإلصابات البدنية .-ا
مقررات الصلح بتبيان ما لكل قبيلة منهما من الحقوق وما عليها من الواجبات وااللتزامات ،وبتبيان كيفيات
إنفاذ مقررات الصلح .ولم يستغرق إنجاز هذا العمل سوى أقل من عام بقليل ،وهي مدة قصيرة بالمقارنة لما
تستغرقها مثل هذه الدعاوى وفقا ا إلجراءات العدالة الجنائية التقليدية ،القابلة أحكامها للطعون بمختلف
مراحلها ،فضالا عما في هذا النوع من العدالة المجتمعية من تطييب الخواطر ،بما يبعث الطمأنينة في المجتمع-
.
خامسا ا :الدرء والمسامحة:
اإلطار الفلسفي الذي شرعت في دائرته أصول التقاضي في دعاوى الحدود الشرعية ،هو" :الدرء
والمسامحة" ،والمقصود بالدرء هو دفع الحدّ بوساطة المتهم أو من تلقاء نفس القاضي ،ما كان ذلك
ممكناا ،لحديث النبي صلى هللا عليه وسلم " :إذا اشتبه عليك الحدّ فأدرأ ما استطعت" ومبدأ (درء
الحدود بالشبهات) يع ٌد ركيزة أساس في أصول المحاكمات الجنائية التي يعتمدها القضاء السوداني،
وصالا لموروثه الممتد منذ عصر النبوة إلى عصرنا الحاضر ،وحيث تبلور ذلك المبدأ في النظم
المعاصرة إلى قاعدة " :تفسير الشك لصالح المتهم".
وأما المسامحة فتتبدى في هذا المجال من المنهج المخول شرعا ا للقاضي في تلقين الحجة للمتهم،
الحدي ،استحب للقاضي
تعريضا ا ابتداءاا ،ثم تصريحاا ،استحبابا ا للستر ،فإن اعترف المتهم بالجرم
ّ
تلقينه الرجوع عن اعترافه ،ويكره التسارع إلى تدوين اإلقرار القضائي في هذا المجال ،بل يستأنى به
لجلسة أخرى ،فإن تكرر وخال من الشبهات قضى بمقتضاه وإالا فال ،وهذا هو المقرر فقهاا ،وقانونا ا
وفقا ا ألحكام المادة ( )144/4من قانون اإلجراءات الجنائية لسنة 1991م.
ويتمخض عن إطار "الدرء والمسامحة" في أقضية الحدود الشرعية ،تضييق دائرة التجريم بتك
الحدود ،يتبدى ذلك من منهج اإلكثار في تفصيالت عناصر أركان الجريمة الحدّ ية ،ثم اإلكثار في
تفصيالت إثبات وقائعها ،واإلكثار من الشبهات الدارئة للحدود ومن مسقطاتها .والشيء كلما كثرت
قيوده قل ا وجوده.
ا
واستقراء الواقع التطبيقي يؤكد أن تلك القيود المتكاثرة تتيح للقاضي س ا
واسعة في
لطة
االستقصاء القضائي بمنهج الحياد اإليجابي ،يعينه على ذلك عنصران أولهما :قلة
النصوص اآلمرة التي تقيد حرية القاضي في االستقصاء –في هذا المجال،-
وثانيهما :ما هو مخول للقاضي من حرية كاملة في التحري واالستياق عن مدى توفر
تلك الكثرة الكاثرة من العناصر والشرائط .ومدى انتفاء الشبهات الدارئه والمسقطات
كافة.-
سادسا ا :التسامح الديني:
يعدّ مثاليا ا أنموذج التطبيقات القضائية التي يتميز بها القضاء السوداني في مجال التسامح الديني ،فال
مؤاخذة لألقليات من أهل الملل والثقافات األخرى ،بالتشريعات الوطنية ذات الصبغة الدينية .ولئن
كانت المادة ( )5/3من القانون الجنائي لسنة 1991م قد استثنت إقليم جنوب السودان من أحكام
المواد ذات الصبغة الدينية ،فإن تشريعنا الدستوري قد ذهب إلى أبعد من ذلك ،حيث قضت المادة
( )156من دستور السودان االنتقالي لسنة 2005م ،بإفراد العاصمة القومية بأوضاع خاصة،
تحقيقا ا للتسامح الديني؛ إذ نصت المادة المذكورة على أنه " :دون المساس بصالحية أي مؤسسة
قومية في إصدار القوانين ،يسترشد القضاة وأجهزة تنفيذ القانون عند تطبيق العدالة وتنفيذ أحكام
القوانين السارية في العاصمة القومية باآلتي-:
يكون التسامح أساسا ا للتعايش بين السودانيين على اختالف ثقافاتهم وأديانهم وأعرافهم.
يعتبر السلوك الناشئ عن الممارسات الثقافية واألعراف الذي ال يسبب إخالالا بالنظام العام واحتقاراا
ألعراف اآلخرين وال تكون فيه مخالفة للقانون ،ممارسة للحريات الشخصية في نظر القانون.-
(ج ) تراعي المحاكم عند ممارسة سلطاتها التقديرية في توقيع العقوبات على غير المسلمين ،المبدأ
الراسخ في الشريعة اإلسالمية ،أن غير المسلمين من السكان ال يخضعون للعقوبات الحدية
المفروضة ،وتطبق عليهم عقوبات تعزيرية وفقا ا للقانون.
وضمانا ا إلعمال مبدأ التسامح الديني وفقا ا لما هو مقرر بالمادة اآلنفة الذكر ،فقد
شرعت المادة ( )158من ذات الدستور مقررة إنشاء آليات لضمان إنفاذ تلك
المبادئ؛ إذ جاءت الفقرة (أ) من المادة اآلنفة الذكر ،بتخويل رئيس القضاء بإصدار
منشورات قضائية إلرشاد المحاكم إلى كيفية مراعاة المبادئ المذكورة في المادة
( -)156اآلنفة الذكر ،كما جاءت الفقرة (ب) منها بتخويل رئيس القضاء في إنشاء
محاكم متخصصة إلجراء المحاكمات وفقا ا لتلك المبادئ .-وبحق فقد قام القضاء
السوداني بتنزيل تلك المبادئ على أرض الواقع ،فأصدرت المحكمة العليا –والمحاكم
األدنى -أحكامها على ضوء تلك المقررات الدستورية بأمثل الوجوه ،ونشير هنا
للمثال-ال للحصر -ما قضت به المحكمة العليا السودانية في قضية " :حكومة السودان
/ضد /م.ر.م" إذ قالت " بالرغم من أن نص المادة ( )5/3من القانون الجنائي لسنة
1991م يستثنى الواليات الجنوبية فقط من تطبيق الجرائم الحدّية ،إالا أن المادة
(/156د) من الدستور االنتقالي لسنة 2005م ،منعت توقيع العقوبة الحدية على غير
المسلمين من السكان في العاصمة القومية ،والدستور يعلو على القانون ويتعين
اتباعه" ،-وبنا اء عليه قضت المحكمة العليا بإلغاء العقوبة الحدية ،واستبدلت بها
عقوبة تعزيرية مع مراعاة مبدأ الرأفة المنصوص عليها دستوريا ا وفقا ا للمادة
(/156هـ) من الدستور االنتقالي لسنة 2005م.-
وبعد:
غيض من
فهذه (أضوا ٌء) خاطفة أبانت بعض خصائص القضاء السوداني ،وهي
ٌ
فيض ،و إحصاء تلك الخصائص مما تضيق عنه األسفار ،وسوف تظل إشراقات
علويا ا يتلوه األبرار.-
القضاء السوداني نوراا وضا اء من فوق األقمار ،وسفراا ّ
والحمد هلل على نعمائه.-
رئيسًالقضاءً -رئيسًالمحكمةًالعليا
المحكمةًالعليا
محاكمًاإلستئناف
المحاكمًالجزئيةً
محاكمًالمدنًواألرياف