المحور التاريخي - السلطة القضائية

Download Report

Transcript المحور التاريخي - السلطة القضائية

‫اضواء على النظام القضائى فى السودان‬
‫تحتوي هذه الدراسة على محاور بالتفصيل التالي‪:‬‬
‫المحور التاريخي‪ :‬لمحة تاريخية للنظام القضائي بالسودان‬
‫استقالل القضاء وضماناته‪.‬‬
‫المحور األول‪:‬‬
‫المحور الثاني‪ :‬التنظيم القضائي المعاصر "الهياكل والمضامين"‬
‫المحور الثالث‪ :‬فاعلية عدل القضاء السوداني وخصائصه‬
‫وفيما يلي نعرض كل محور على حدة‬
‫= المحور التاريخي =‬
‫لمحة تاريخية للنظام القضائي بالسودان‬
‫بدأت تترسخ جذور القضاء السوداني المعاصر منذ بدايات حقبة الممالك اإلسالمية في السودان‬
‫بمنتصف القرن الخامس عشر الميالدي بنشأة سلطنة دارفور‪ ،‬في سنة ‪ 1444‬للميالد‪ ،‬حيث تولى فيها‬
‫الحكم سليمان بن أحمد سفيان العربي – كأول حكام السلطنة‪ -‬مستهالا عهده بإصالحات قضائية‪ ،‬عني‬
‫فيها بحسن اختيار قضاة السلطنة بنفسه‪ ،‬بعد طول تأمل في الرعية تحريا ا الختيار األمثل لوظيفة‬
‫القضاء‪.-‬‬
‫كان القضاء في سلطنة دارفور ينقسم إلى قسمين هما‪-:‬‬
‫أ‪ -‬القضاء النظامي‪:‬‬
‫ويتقاضى – أي يترافع‪ -‬أمامه الخصوم على مرحلتين‪ ،‬ابتدائيا ا أمام (المحاكم الصغرى)‪ ،‬ثم استئنافيا ا‬
‫أمام المحكمة الكبرى‪ ،‬وقد انتشرت المحاكم الصغرى في المدن اإلقليمية‪ ،‬بينما كانت حاضرة السلطنة ‪-‬‬
‫الفاشر‪ -‬هي مقر المحكمة الكبرى‪ .‬وكانت مرجعية العمل القضائي النظامي قائمة على المذهب المالكي‬
‫ب‪ -‬القضاء العرفي‪:‬‬
‫ويقوم به جماعة من كبار علماء السلطنة بالبوادي والقرى النائية‪ ،‬وهو أشبه بنظام (قضاء‬
‫الصلح)‪ ،‬ويسمى في عرف أهل السودان بنظام األجاويد‪ .‬واألصل في هذا النظام هو االحتكام إلى‬
‫األعراف والتقاليد والعادات‪ ،‬ومنه استقرت القاعدة الفقهية‪ " :‬العادة محكمة "‪ .‬وقاعدة‪:‬‬
‫"المعروف عرفا ا كالمشروط شرطا ا"‪ ،‬وقد استقر في الوجدان أن ‪:‬‬
‫العرف في الشرع له اعتبار *** لذا عليه الحكم قد يدار ‪.-‬‬
‫وفي أواسط السودان تأسست مملكة الفونج‪ -‬المشهورة بالسلطنة الزرقاء ‪ ،‬أو مملكة سنار‪ -‬بدءاا‬
‫من سنة ‪1504‬م حتى سنة ‪1821‬م‪ ،-‬ونال التنظيم القضائي فيها حظا ا وافراا‪ ،‬حيث أنشئت محكمة‬
‫عليا بحاضـرة المملكة " سنار" وعين لها قاضي يلقب بقاضي عموم سنار‪ ،‬كما أٌنشئت محاكم‬
‫إقليمية سميت بالمحاكم الصغرى في كل من مدن شندي وأبو حمد وبربر وفريق وح ّنك والحتانة‬
‫وأرقو‪ .‬وكانت تشكل المحاكم الصغرى من قاضي فرد‪ ،‬يختص بنظر الدعاوى ذات الطبيعة البسيطة‪،‬‬
‫أما الدعاوى ذات الطبيعة الخطيرة فقد كانت تنظر بنظام التعدد‪ ،‬وتستأنف األحكام لدى المحكمة‬
‫العليا – محكمة عموم سنار‪ -‬التي أمتد اختصاصها إلى جميع أركان المملكة – هذا فضالا عن أن‬
‫اختصاصها قد شمل الفصل ابتدائياا‪ ،‬في أقضية الجنايات الكبرى‪ ،‬كالسلب والنهب والقتل‪ ،‬وكذلك‬
‫أقضية األسرة والمعامالت المالية على اختالف أنواعها وقدرها‪.-‬‬
‫ودون هاتين المرتبتين اآلنفتين وجدت درجة للتقاضي أمام " محكمة الشريعة البيضاء" التي كانت‬
‫تنحصر في البوادي‪ ،‬وقضاتها العلماء‪ ،‬وتستأنف أحكامها لدى قاضي المحكمة الصغرى المختص‪.-‬‬
‫جاء في كتاب " تطور نظام القضاء في السودان" عن صفات قضاة مملكة الفونج أنه‪ " :‬كان هؤالء‬
‫القضاة جميعهم من الرجال الصالحين‪ ،‬وكان كل منهم عامالا عادالا‪ ،‬ورعا ا تقيا ا وشيخا ا إسالميا ا آمراا‬
‫بالمعروف وناهيا ا عن المنكر‪ .‬وقد اشتهر كل منهم بين قومه بالمروءة والوفاء بالعهد‪ ،‬وحسن الجوار‬
‫ُ‬
‫الرعية القضا َة‪،‬‬
‫والحلم والعفة والتواضع والشجاعة والجود‪ ،‬والنزاهة والصدق واألمانة‪ ،‬لذلك أحب‬
‫ومالت إليهم قلوبهم‪ ،‬واطمأنت إليهم نفوسهم"‬
‫كانت الجلسات القضائية في عهد السلطنة الزرقاء –ومن قبلها في سلطنة دارفور‪ -‬تعقد علنا ا في‬
‫المسجد الجامع‪ -‬أو بأية جهة أخرى‪ ،-‬وكان القضاة يلتزمون بقواعد ضبط الجلسة‪ ،‬إضفا اء لهيبة‬
‫القضاء على المجلس‪ ،‬كما أنهم اتبعوا منهجا ا متطوراا في نظام المرافعات‪ .‬وقد جاء في كتاب "تطور‬
‫نظام القضاء في السودان" أن القاضي في عهد مملكة الفونج‪" :‬كان يشرع في سماع الدعوى ويتولى‬
‫بنفسه توجيه األسئلة إلى الخصوم وسماع شهادة الشهود ومناقشتهم‪ ،‬وال مانع من أن يطلب منه‬
‫النواب الذين معه بالجلسة توجيه ما يريدون من األسئلة‪ ،‬وبعد أن يتم التحقيق الالزم في القضية ‪،‬‬
‫يأمر القاضي الخصوم بالخروج من قاعة الجلسة‪ ،‬وبعد خروجهم يتناقش القاضي والنواب في القضية‪،‬‬
‫وبعد البحث والمناقشة يصدر الحكم – باالتفاق‪ -‬وعند االختالف يرجح الجانب الذي مع القاضي"‪.‬‬
‫وعلى ذات نسق مملكة دارفور‪ ،‬فإن مرجعية العمل القضائي كانت قائمة على المذهب المالكي‪.-‬‬
‫ظل عمل القضاء في الممالك الوطنية على هذا النسق حتى العهد التركي المصري الممتد من سنة ‪1821‬م حتى‬
‫سنة ‪1885‬م – فأُنشئت محكمة عليا‪ ،‬مقرها الخرطوم‪ ،‬وكانت تسمى (مجلس استئناف السودان) وكان‬
‫اختصاصها استئنافياا‪ ،‬حيث كانت تنظر في األحكام الصادرة من قضاة المديريات بصفة استئنافية‪ ،‬وكانت أحكامها‬
‫نهائية‪ .-‬أما محاكم المديريات فكان مقرها حواضر المديريات‪ -‬مثل دنقال وبربر وسنار والخرطوم وفشودة والتاكا‬
‫وغيرها‪ .-‬وكانت تنظر استئنافيا ا في أحكام قضاة األقسام التابعين لها‪ ،‬كما كان لها اختصاص ابتدائي في كافة‬
‫األقضية بدائرة المركز‪.-‬‬
‫لقد أُدخل منصب (قاضي القضاة) في التنظيم القضائي السوداني في أوائل العهد التركي المصري‪ ،‬بغرض‬
‫اإلشراف على العمل القضائي وتنظيمه‪ ،-‬وقد استبدل العهد التركي مرجعية المذهب المالي بالمذهب الحنفي‪ ،‬كما‬
‫بدأ نظام التقنين وفقا ا لمبادئ المرسة الالتينية بدءاا من منتصف العهد التركي المصري‪.-‬‬
‫فلما استعادت الدولة المهدية زمام السيادة‪ ،‬في سنة ‪1885‬م أصبح اإلمام المهدي هو الرئيس األعلى للقضاء‪،‬‬
‫حيث كان يقوم بتعيين القضاة بنفسه‪ ،‬وكان أكبر مناصب القضاء هو منصب "قاضي القضاة"‪ ،‬وكان يختص‬
‫بترشيح العلماء لمنصب القضاء‪ ،‬مع اإلشراف على أعمالهم‪ ،‬فضالا عن ممارسته الختصاص قضائي‪ ،‬برئاسة‬
‫محكمة أم درمان التي هي بمثابة (المحكمة العليا) اآلن‪.‬‬
‫كانت محكمة أم درمان – المحكمة العليا‪ -‬في عهد المهدية تشكل من عشرين من القضاة‪ ،‬يعملون بنظام القاضي‬
‫الفرد في القضايا كافة‪ ،‬سوى القضايا الجنائية الكبرى حيث كانت تنظر بوساطة قضاة المحكمة العليا مجتمعين‬
‫برئاسة قاضي القضاة‪ .‬وكانت األحكام التي تصدرها محكمة أم درمان – المحكمة العليا‪ -‬انتهائيه‪ -‬تكتسب قوة‬
‫به‬
‫المقضي‬
‫األمر‬
‫الشيخ محمد األسيوطي هو أول من تقلّد منصب قاضي القضاة بالسودان‪ ،‬وجاء من مصر بصحبة جيش إسماعيل‬
‫باشا سنة ‪1821‬م = راجع كتاب تطور نظام القضاء في السودان صفحة ‪.99‬‬
‫تميز التنظيم القضائي في عهد دولة المهدية بدخول نظام "القضاء المتخصص" فكانت هنالك محكمة‬
‫لدعاوى المال العام ‪ ،‬أسميت (محكمة بيت المال)‪ .‬وكانت هناك محاكم الجهادية ومحاكم السرية‪ ،‬وكان‬
‫هناك "قضاء المظالم" وهو أشبه بنظام القضاء اإلداري المعاصر‪.‬‬
‫وفي سنة ‪1898‬م استكملت دولتا الحكم الثنائي‪ -‬إنجلترا ومصر‪ -‬االستيالء على السودان‪ ،‬لتسخير‬
‫موارده لصالح المستعمر‪ ،‬لفترة تجاوزت نصف القرن‪ ،‬حتى تاريخ إعالن االستقالل في يناير سنة‬
‫‪1956‬م‪.‬‬
‫اتفقت دولتا الحكم الثنائي على إبقاء السلطة التشريعية بالبالد بيد الحاكم العام اإلنجليزي‪ ،‬كما اتفقتا‬
‫على تقسيم القضاء بالسودان إلى قسمين‪ :‬مدني يرأسه رئيس القضاء –اإلنجليزي الجنسية‪.. ،-‬‬
‫وشرعي يرأسه قاضي القضاة‪ -‬المصري الجنسية‪ ،-‬وعلى أن يشرف السكرتير القضائي‪ -‬اإلنجليزي‬
‫الجنسية‪ -‬على إدارة القضاء‪.-‬‬
‫لقد اتسمت هذه الحقبة بكثافة التشريعات التي صدرت خاللها‪ ،‬وأولها قانون عقوبات السودان لسنة‬
‫‪1899‬م الذي صدر نقالا عن قانون العقوبات الهندي ‪ ..‬وصدر في ذات العام قانون اإلجراءات الجنائية‬
‫لسنة ‪1899‬م‪.-‬‬
‫كما صدرت قوانين أخرى عديدة في ذات العام منها قانون سندات األراضي‪ ،‬وقانون ضريبة المنازل‬
‫وقانون الموازين والمقاييس وقانون األسلحة وقانون المناجم وقانون ضرائب األطيان وقوانين بأسماء‬
‫مدن الخرطوم ودنقال وبربر ووادي حلفا وسواكن‪.‬‬
‫ثم صدر قانون القضاء المدني لسنة ‪1900‬م وقانون المحاكم الشرعية لسنة‬
‫‪1902‬م والئحة ترتيب ونظام المحاكم الشرعية لسنة ‪1915‬م وقانون الشركات‬
‫لسنة ‪1925‬م وقانون تسـوية األراضي وتسـجيلها لسنة ‪1925‬م –وهذان‬
‫األخيران‪ -‬ساريان حتى اليوم‪ ،-‬ثم صدر قانون القضاء المدني لسنة ‪1929‬م‪.‬‬
‫فتلك بعض القوانين التي صدرت خالل تلك الحقبة‪ ،‬وكان لها دور هام في تنظيم‬
‫حركة المجتمع وعالئق أفرادها‪ ،‬حيث جاءت كثير منها جيدة المضمون والصياغة‬
‫بداللة أن بعضها ما زال ساريا ا كما أشرنا آنفا ا‪.-‬‬
‫لقد ترسخت جذور النظام القضائي السوداني عبر تلك الحقب الغابرة‪ ،‬فكانت تورق‬
‫شجرتها بممازجة مزايا السالفة بالخالفة‪ ،‬فلما حانت حقبة التنظيم القضائي‬
‫المعاصر‪ ،‬في السودان المستقل المعاصر‪ ،‬تالقحت المبادئ القضائية الموروثة‬
‫تاريخيا ا مع مبادئ المدارس التشريعية المعاصرة‪ -‬األنجلوسكسونية والالتينية‬
‫واإلسالمية‪ -‬لتشكل تنظيما ا قضائيا ا ذا خصوصية متفردة‪ -‬على نحو ما يبين في‬
‫المباحث التالية‪:‬‬
‫المحور األول –‬
‫استقالل القضاء وضماناته في السودان‬
‫اعتمد مبدأ استقالل القضاء باعتباره معياراا أساسيا ا إلنفاذ العدالة‪ ،‬إبان انعقاد مؤتمر األمم المتحدة‬
‫الخاص بمنع الجريمة ومعاملة المجرمين‪ ،‬وصادقت على ذلك الجمعية العامة لألمم المتحدة في سنة‬
‫‪1985‬م‪.‬‬
‫أما في السودان فقد عينت الدساتير المتعاقبة – بال استثناء‪ -‬بالنص على مبدأ استقالل القضاء‪ ،‬بدءاا‬
‫من اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير لسنة ‪1953‬م وقانون الحكم الذاتي لسنة ‪1953‬م مروراا‬
‫بدستور السودان المؤقت المعدل لسنة ‪1964‬م (المادة ‪ 9‬منه) ثم دستور السودان الدائم لسنة‬
‫‪1973‬م (المادة ‪ 185‬منه) ودستور السودان االنتقالي لسنة ‪1985‬م (المادتين ‪ 121/122‬منه)‬
‫ودستور السودان لسنة ‪1998‬م (المادة ‪ 99‬منه) فقد نصت كلها على أن والية القضاء في السودان‬
‫تناط بجهة مستقلة تسمى السلطة القضائية‪ ،‬تتولى الفصل في األقضية وفقا ا للدستور والقانون وبأن‬
‫القضاة مستقلون في أداء واجباتهم القضائية‪ ،‬وال سلطان عليهم إالا حكم القانون‪.‬‬
‫ويعيش السودان اليوم فترة زاهية‪ ،‬حيث عنيت اتفاقية السالم الشامل بالنص على مبدأ االستقالل‬
‫العضوي للسلطة القضائية في فقرتها (‪ ،)1-11-2‬ثم كانت عناية الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م أبلغ‬
‫في ترسيخ شمولية هذا المبدأ‪ ،‬بجعله استقالالا متكامالا بجانبيه الوظيفي والمالي؛ إذ نصت المادة‬
‫(‪ )123‬منه على أن‪-:‬‬
‫" (‪ )1‬تسند والية القضاء القومي في جمهورية السودان للسلطة القضائية القومية‪.‬‬
‫(‪ )2‬تكون السلطة القضائية مستقلة عن الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية ولها االستقالل المالي‬
‫واإلداري الالزم‪.‬‬
‫(‪ )3‬ينعقد للسلطة القضائية القومية ‪ ،‬االختصاص القضائي عند الفصل في الخصومات وإصدار‬
‫األحكام وفقا ا للقانون‪.‬‬
‫(‪ )4‬يكون رئيس القضاء لجمهورية السودان رئيسا ا للسلطة القضائية القومية ورئيسا ا للمحكمة العليا‬
‫القومية‪ ،‬ويكون مسئوالا عن إدارة السلطة القضائية القومية أمام رئيس الجمهورية‪.‬‬
‫(‪ )5‬على أجهزة الدولة ومؤسساتها تنفيذ أحكام وأوامر المحاكم "‪.‬‬
‫وقد نصت المادة (‪ )8‬من قانون السلطة القضائية لسنة ‪1986‬م على ذات هذه المعاني بشأن والية‬
‫القضاء ومسئولية السلطة القضائية مباشرة لدى رئيس الجمهورية وبشأن ميزانية السلطة القضائية‬
‫التي تصدر بقرار من رئيس الجمهورية بتوصية من المفوضية القومية للخدمة القضائية‪ ،‬وذلك يمثل‬
‫انعتاقا ا كليا ا من سطوة السلطتين التنفيذية والتشريعية‪.-‬‬
‫ضمانات استقالل القضاء‪:‬‬
‫تعميقا ا لجذور مبدأ استقالل القضاء في الواقع العملي‪ -‬ولئال يضحى شعاراا خلواا من مضامينه‪ -‬فقد أرست‬
‫اتفاقية السالم الشامل ودستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪ ،‬ضمانات الستقالل القضاء‪ ،‬تحقيقا ا‬
‫للغاية التي شرع من أجلها المبدأ‪ ،‬وتتمثل تلك الضمانات فيما يلي‪-:‬‬
‫أوالا‪ :‬عدم التدخل في أعمال القضاء‪:‬‬
‫وقد نصت الفقرة (‪ )3-4-11-2‬من اتفاقية السالم الشامل على منع تدخل السلطة السياسية على عمل‬
‫القضاء ونصها‪" :‬يمارس قضاة المحكمة الدستورية والمحكمة العليا القومية‪ ،‬وجميع قضاة المحاكم‬
‫الوطنية األخرى مهامهم دون تدخل سياسي‪ ،‬وعلى أساس من االستقاللية‪ ،‬ومن دون خوف أو محاباة‪،‬‬
‫ويحمي الدستور القومي االنتقالي والقانون استقاللهم"‪.‬‬
‫بل إن الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م قد عنى بإيراد نص آمر يقضي بإلزام أجهزة الدولة ومؤسساتها‬
‫بتنفيذ أحكام وأوامر المحاكم‪ -‬وهذا هو نص المادة (‪ )123/5‬من الدستور المذكور وقد سبق لنا إيرادها‪-‬‬
‫وهو نص يبعث الثقة في نفس القاضي‪ ،‬وينزع عنه المهابة والرهبة‪ ،‬ما دامت أحكامه وأوامره نافذة‬
‫بحكم الدستور‪.-‬‬
‫وقد نص الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م في مادته (‪ )128/1‬على عدم جواز التأثير على القضاة في‬
‫أحكامهم‪.-‬‬
‫ثانيا ا‪ :‬كفالة األمن الوظيفي‪:‬‬
‫لقد عنيت اتفاقية السالم الشامل ودستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م بكفالة‬
‫األمن الوظيفي للقاضي‪ ،‬وتلك إحدى أهم ضمانات إنفاذ مبدأ استقالل القضاء‪ ،‬إذ‬
‫حرمت الفقرة (‪ )7-4-11-2‬من اتفاقية السالم الشامل‪ ،‬عزل القاضي‪ ،‬فال يقال عن‬
‫وظيفته إال لسبب سوء سلوك فاضح أو النعدام الكفاءة والقدرة ‪ ،‬وتقرأ الفقرة على‬
‫النحو التالي‪ " :‬ال تتأثر والية القضاء بقراراتهم القضائية‪ ،‬وال يجوز إقالة القضاة‬
‫إال بسبب سوء سلوك فاضح وانعدام الكفاءة والقدرة أو خالفا ا لذلك وفقا ا للقانون‪،‬‬
‫وبنا اء فقط على توصية من المفوضية القومية للخدمة القضائية"‪.-‬‬
‫وقد ش اددت المادة (‪ )131/2‬على عدم جواز عزل القضاة إذ أوردت ذلك بنص آمر‬
‫مشفوعا ا بمزيد من الضمانات ونصها‪ " :‬ال يجوز عزل القضاة إال بسبب السلوك‬
‫المشين أو عدم الكفاءة أو فقدان األهلية‪ ،‬وذلك وفقا ا للقانون‪ ،‬على أالا يتم ذلك إالا‬
‫بأمر من رئيس الجمهورية ‪ ،‬بنا اء على توصية من رئيس القضاء وبموافقة‬
‫المفوضية القومية للخدمة القضائية"‪.-‬‬
‫ثالثا ا‪ :‬كفالة الراتب المجزي للقاضي‪:‬‬
‫كفالة الراتب المجزي للقاضي صونا ا الستقالل القاضي‪ ،‬مبدأ تراثي للقضاء‬
‫السوداني – فهو موروث من فقهنا اإلسالمي ‪ ،‬إذ يروى عن سيدنا علي بن أبي‬
‫طالب أنه كتب إلى واليه بمصر " األشتر النخعي" قائالا‪ " :‬وأفسح له‪ -‬أي‬
‫للقاضي‪ -‬في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس" وقد أحسن دستور‬
‫السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م في مادته (‪ )123/2‬حين كفل االستقالل المالي‬
‫التام للسلطة القضائية‪ ،‬فهو أمر جوهري لتحقيق هذه الضمانة‪ ،‬وال يخفى أن‬
‫الراتب المجزي مما يتيح للقاضي نظراا صائبا ا‪ -‬بصفاء ذهن‪ -‬في اقوال الخصوم‬
‫وأدلتهم‪ ،‬بلوغا ا إلى فصل القضاء بالقسط‪ ،‬وينعم قضاتنا بقدر وافر من هذه‬
‫الضمانة‪.-‬‬
‫= المحور الثاني =‬
‫التنظيم القضائي المعاصر‬
‫{الهياكل والمضامين}‬
‫تبلور التنظيم القضائي المعاصر في السودان‪ ،‬مع إرهاصات االستقالل‪ ،‬منذ توقيع دولتي الحكم‬
‫الثنائي –إنجلترا ومصر‪ -‬على اتفاقية الحكم الذاتي للسودان في ‪12/2/1953‬م‪ ،‬والذي أصبح بعدئذ‬
‫(قانون الحكم الذاتي لسنة ‪1953‬م)‪ ،‬وقد نصت المادة (‪ )9‬منه على استقالل القضاء من السلطتين‬
‫التنفيذية والتشريعية‪.‬‬
‫ونصت المادة (‪ )76‬من القانون المذكور على اختصاص رئيس القضاء باإلشراف القضائي‬
‫واإلداري على الهيئة القضائية –بفرعيه المدني والشرعي‪ ،-‬كما نصت المادة (‪ )86‬منه على إنشاء‬
‫مجلس للخدمة القضائية‪ ،‬برئاسة رئيس القضاء‪ ،‬مع تخويل رئيس القضاء –بعد التشاور مع قاضي‬
‫القضاة‪ -‬بوضع لوائح تنظيم العمل وتحديد شروط خدمة القضاة‪.-‬‬
‫رئيس القضاء‪:‬‬
‫كان أول ظهور لوظيفة رئيس القضاء بالسودان في نهايات القرن التاسع‬
‫عشر‪ ،‬إذ توالها بحكم منصبه "سير أدجار بونهام كارتر – اإلنجليزي‬
‫الجنسية‪ -‬ما بين ‪1899‬م وحتى ‪1917‬م"‪ ،‬وأعقبه "سير ويسي ستيري"‬
‫وكان يجمع بين وظيفتي رئيس القضاء والسكرتير القضائي‪ ،‬وتعاقبت نخبة‬
‫من اإلنجليز‪ -‬بعضهم جامعا ا بين هاتين الوظيفتين‪ ،‬فكان "روبرت هـاي ون"‬
‫ثم "سير ب‪.‬هـ بيل" ثم "هاول أون" ثم "ج‪.‬ب قورمان" ثم "توماس كريد"‬
‫ثم "هـ‪.‬ج‪.‬م فالكسمان" ثم بنت ‪ " Bennet‬وكان آخر من تقلد المنصبين‬
‫هو " شارلس سيسل جورج كمنجز" جاء بعده متقلداا وظيفة رئيس القضاء‬
‫فقط "ماكالجان" ثم آخرهم "لندسي"‪ ،‬بعدها جاءت مرحلة سودنة الوظيفة‪،‬‬
‫فكان أول من تولى وظيفة رئيس القضاء من السودانيين هو القاضي العالم‬
‫(محمد أحمد أبو رنات) في سنة ‪1955‬م‪ ،‬وتعاقب بعده عقد فريد من‬
‫السودانيين وهم جميعا ا من أفذاذ فقهاء القانون الذين أثروا ساحات المعارف‬
‫القضائية –محليا ا وإقليميا ا‪.-‬‬
‫قاضي القضاة‪:‬‬
‫كان (قاضي القضاة) هو الذي يناط به اإلشراف القضائي واإلداري على قسم القضاء الشرعي (الذي‬
‫كان يختص بالفصل في أقضية األسرة)‪ ،‬وخولت المادة (‪ )53‬من الئحة ترتيب ونظام المحاكم الشرعية‬
‫لسنة ‪1915‬م لقاضي القضاة سلطة إصدار منشورات قضائية للعمل بموجبها في المحاكم الشرعية‪.-‬‬
‫لقد تولى منصب قاضي القضاة من المصريين‪ ،‬إبان الحكم الثنائي اإلنجليزي المصري‪ ،‬علماء أجالء‬
‫مألت مصنفاتهم اآلفاق وظلت أجيال القضاة تقطف من ثمراتها ألكثر من قرن من الزمان‪ ،‬فهنالك‬
‫الشيخ محمد شاكر والشيخ محمد هارون والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ محمد أمين قراعة‬
‫والشيخ محمد نعمان الجارم– وكان آخر العقد الفريد الذي تولى تلك الوظيفة من المصريين (الشيخ‬
‫حسن مأمون)‪ ،‬ومن بعده جاء أول (قاضي قضاة) سوداني – خالل الحكم الثنائي‪ -‬وهو فضيلة الشيخ‬
‫أحمد الطاهر‪ ،‬ومن ثم تعاقب من بعده على تلك الوظيفة ثلة من عظماء قضاة السودان العلماء حتى‬
‫انتهت تلك الوظيفة في سنة ‪1983‬م بدمج المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية‪ ،‬حيث أصبح رئيس‬
‫القضاء هو المسئول إداريا ا والمشرف قضائيا ا على السلطة القضائية الموحدة‪.‬‬
‫وال نغالي إن قلنا بأن أولئك النفر من العلماء األجالء قد بسطوا العدل‪ ،‬وأثروا ساحات القضاء‬
‫السوداني بغزير معارفهم ووافر تجاربهم وخبراتهم‪ ،‬ويشهد لهم ما سطروه من أحكام قضائية مشرقة‬
‫–ومن منشورات منظمة للعمل القضائي‪ ،‬وثقتها مجالت األحكام القضائية وإصدارات المنشورات‬
‫والنشرات والتعليمات المطبوعة منها وغير المطبوعة‪.-‬‬
‫التالقح المعرفي والتواصل التأهيلي‪:‬‬
‫ذلكم العقد الفريد من الفقهاء اإلنجليز والمصريين الذين سطروا تاريخا ا قضائيا ا مجيداا في أرضنا‪ ،‬لم‬
‫يدّخروا وسعا ا في نقل معارفهم وخبراتهم إلى األجيال السودانية التي عاصرتهم‪ ،‬فأمتد عطاؤهم إلى‬
‫التنمية المعرفية لمعاصريهم من القضاة السودانيين‪ ،‬الذين قاموا بذات الدور لمن خلفهم‪ ،‬فكان ذلك‬
‫أنموذجا ا فريداا للتالقح المعرفي‪ ،‬والتواصل التأهيلي‪ ،‬حيث أصبح لدينا اليوم من القضاة حملة الدرجات‬
‫فوق الجامعية (الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه) مائتان واثنان وثالثون قاضياا‪ ،‬من مجموع‬
‫تسعمائة وأربعة وأربعين قاضيا ا هم العاملون فعليا ا بالسلطة القضائية السودانية‪.‬‬
‫وهناك أعداد أخرى متفرغة‪ -‬في مراحل الدراسات العليا‪ ،‬فضالا عن القضاة المعاشيين الذين ال ينقطع‬
‫عطاؤهم‪ ،‬بل يظلون في أداء دورهم الرسالي‪ ،‬تدريبا ا للقضاة وتعليما ا في كليات القانون بالجامعات‬
‫المختلفة‪ ،‬بمنهج نظري تطبيقي‪ ،‬يعين على ترقية معارف الخريج الجامعي‪.‬‬
‫إن هذا التواصل التأهيلي المستمر وفق خطط مدروسة موجهة من شأنها إفادة إضافات حقيقية‬
‫لتخصصات المعارف القضائية‪ ،‬بحيث جعل ذلك من القاضي السوداني ا‬
‫قبلة يممت شطره الدول الشقيقة‬
‫منذ أكثر من ثالثين سنة‪ ،‬فكان له دور فاعل في إرساء دعائم النظم القضائية فيها –وباألخص في دول‬
‫الخليج العربي‪ -‬ويبلغ عدد القضاة السودانيين المعارين إليها اليوم‪ ،‬اثنان وخمسون قاضيا ا‪ ،‬فضالا عن‬
‫أضعافهم من العائدين إلى أرض الوطن بعد أداء رسالتهم العدلية‪ ،‬وما زال هناك عدد مقدر من‬
‫المعاشيين يديرون أغلب دفة النشاط القانوني بمختلف المؤسسات‪ ،‬بل وال زالت الطلبات تترى لمزيد من‬
‫اإلعارة‪.-‬‬
‫هياكل السلطة القضائية الحالية‪:‬‬
‫عدلت القوانين المنظمة للسلطة القضائية السودانية كثيراا‪ ،‬خالل عقود ما بعد االستقالل‪ ،‬إالا أنها تكاد تتماثل في‬
‫أطرها العامة مع قانون السلطة القضائية لسنة ‪1986‬م –الساري المفعول‪ -‬وعلى ضوء نصوصه نبين هياكل‬
‫السلطة القضائية –ومضامينها‪ -‬كما يلي‪-:‬‬
‫أ‪ -‬المفوضية القومية للخدمة القضائية‪:‬‬
‫" مجلس القضاء العالي سابقا ا"‬
‫تأتي المفوضية القومية للخدمة القضائية على رأس السلطة القضائية‪ -‬وجاءت بديالا عن مجلس القضاء العالي الذي‬
‫سبق إنشاؤه في سنة ‪1972‬م بموجب المادة (‪ )48/1‬من قانون السلطة القضائية لسنة ‪1972‬م‪ -‬وبقوانين‬
‫مستقلة بدءاا من سنة ‪1973‬م‪.-‬‬
‫أما إنشاء المفوضية (المفوضية القومية للخدمة القضائية) فقد كان نتاجا ا التفاقية السالم الشامل؛ إذ نصت على‬
‫إنشائه الفقرة (‪ )3-1-10-2‬منها‪ ،‬وجاءت المادة (‪ )129‬من دستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م بترسيخ‬
‫ركائز إنشائه دستوريا ا مع تبيان إناطة اإلدارة العامة للقضاء القومي إليها‪.‬‬
‫وقد نصت المادة (‪ )4‬من قانون المفوضية القومية للخدمة القضائية على تشكيلها برئاسة رئيس القضاء‪ ،‬وعضوية‬
‫نوابه ورئيس المحكمة العليا لجنوب السودان ووزير العدل ووزير المالية وعضوية عشرة آخرين من ذوي الخبرة‬
‫القانونية والكفاية –ذكرت المادة صفاتهم‪ .-‬وفي حالة غياب رئيس القضاء عن اجتماعات المفوضية‪ ،‬يتولى الرئاسة‬
‫أقدم نواب رئيس القضاء (المادة ‪ 7/5‬من قانون المفوضية)‪.‬‬
‫وتتولى المفوضية العامة للخدمة القضائية مباشرة اختصاصاتها وفقا ا ألحكام المادة (‪ )5‬من قانونها‬
‫فيما يلي‪-:‬‬
‫(أ) إجازة السياسة العامة للسلطة القضائية‪.‬‬
‫(ب) إجازة موازنة السلطة القضائية‪.‬‬
‫(ج) التوصية بتعيين قضاة المحكمة الدستورية‪.‬‬
‫(د ) التوصية لرئيس الجمهورية بتعيين رئيس القضاء ونوابه‪.-‬‬
‫(هـ) التوصية لرئيس الجمهورية بتعيين قضاة المحكمة القومية العليا وكل قضاة السودان‪.-‬‬
‫(و ) الموافقة على توصية رئيس القضاء بعزل القضاة وفق القانون‪.‬‬
‫(ز ) التوصية بترقية القضاة وفق القانون‪.-‬‬
‫وتختص المفوضية –وفقا ا لذات المادة‪ -‬بتنظيم العالقة بين السلطة القضائية القومية والسلطة القضائية‬
‫لجنوب السودان والسلطات القضائية في الواليات‪.-‬‬
‫ب‪ -‬الهيكل القضائي‪:‬‬
‫وفقا ا ألحكام المادة (‪ )124‬من دستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م مقروءة مع المادة (‪ )10‬من‬
‫قانون السلطة القضائية لسنة ‪1986‬م يتكون الهيكل القضائي بالسودان من المحكمة القومية العليا‬
‫ووفقا ا ألحكام المادة (‪ )17‬من قانون السلطة القضائية لسنة ‪1986‬م فإن دوائر المحكمة العليا تتكون‬
‫من دائرة لنظر الطعون بالنقض في المسائل المدنية ودائرة لنظر الطعون بالنقض في المسائل الجنائية‬
‫ودائرة لنظر الطعون بالنقض في المسائل اإلدارية ودائرتان لنظر الطعون بالنقض في مسائل األحوال‬
‫الشخصية للمسلمين وغير المسلمين‪ .‬ويقوم رئيس القضاء ورئيس المحكمة العليا بتشكيل دوائر‬
‫النقض من ثالثة قضاة فيما سوى الدائرة التي تنظر في طلبات مراجعة أحكام النقض المدنية –أو‬
‫الجنائية‪ -‬والتي تنظر في تأييد األحكام الصادرة باإلعدام أو القطع فتشكل من خمسة قضاة ‪ ،-‬وهناك‬
‫محاكم االستئناف والمحاكم العامة ثم المحاكم الجزئية وهي على ثالث درجات أدناها محكمة القاضي‬
‫الجزئي من الدرجة الثالثة ثم محكمة القاضي الجزئي من الدرجة الثانية وأعالها محكمة القاضي‬
‫الجزئي من الدرجة األولى‪ ،‬وتنظم قوانين اإلجراءات المدنية والتجارية اختصاصات تلك المحاكم كافة‪.‬‬
‫وهنالك المحاكم المتخصصة‪ -‬القضاء المتخصص‪ -‬وقد خولت المادة (‪ )125‬من دستور السودان‬
‫االنتقالي لسنة ‪2005‬م لرئيس القضاء تشكيل دوائر بالمحكمة العليا للنظر والفصل في المسائل التي‬
‫تحتاج إلى خبرة متخصصة‪ ،‬كما خولته المادة (‪/10‬هـ) من قانون السلطة القضائية إلنشاء محاكم‬
‫أخرى بموجب أمر تأسيس يبين كيفية تكوينها وتحديد مقرها واختصاصاتها وإجراءاتها وطرق‬
‫الطعن في أحكامها‪ -‬وقد استخدمت هذه المادة إلنشاء نظام القضاء المتخصص‪ ،‬فأنشئت محكمة‬
‫الملكية الفكرية بالخرطوم ومحاكم البيئة بالخرطوم والخرطوم بحري ومحاكم الضرائب ومحاكم‬
‫العوائد بمختلف مدن السودان والمحكمة التجارية بالخرطوم ومحاكم األحداث التي شهدت تطوراا تقنيا ا‬
‫عاليا ا بإدخال نظام المحاكمة بوساطة الفيديو بحيث ينقل تداول الباحث االجتماعي إلى قاعة المحكمة‬
‫ا‬
‫رعاية لتوازنه النفسي‪.-‬‬
‫عن طريق الفيديو –دون أن يدرك الحدث كنه ما يجري‪ ،‬وذلك‬
‫وتأتي المحاكم الشعبية في أدنى ترتيب المحاكم –وهي غير نظامية‪ -‬ويبلغ عددها حوالي تسعمائة‬
‫محكمة‪ ،‬ويشرف عليها القضاة الجزئيون الذين تقع في دائرة اختصاصهم تلك المحاكم‪.‬‬
‫وتختص المحاكم الشعبية بنظر الدعاوى المدنية والجنائية ذات الطبيعة البسيطة –وفقا ا ألوامر‬
‫تشكيلها‪ -‬متبعة اإلجراءات اإليجازية‪ ،‬وتقوم تلك المحاكم بأداء دور فاعل في تخفيف العبء على‬
‫القضاء النظامي‪ ،‬ويعين قضاتها في إنجاز مهامهم خبرتهم ومعرفتهم بأحوال الناس وأعرافهم ‪-.‬‬
‫ج‪ -‬شروط تعيين القضاة‪:‬‬
‫هنالك شروط عامة لتعيين القضاة نصت عليها المادة (‪ )23‬من قانون السلطة القضائية وهي تتعلق‬
‫باالنتماء إلى الجنسية السودانية مع توفر كمال األهلية‪ ،‬والقيود المتعلقة بأعمار من يتم تعيينهم في‬
‫الدرجات القضائية المختلفة والمؤهالت العلمية الجامعية المعترف بها فضالا عن خلو صحيفة الحالة‬
‫الجنائية –أو اإلدارية‪ -‬عن كل ما يثلم بالشرف أو األمانة‪ -‬حتى ولو صدر قرار بالعفو عنه –مع‬
‫ضرورة توفر السيرة الحميدة والسمعة الحسنة‪.-‬‬
‫أما الشروط الخاصة لتعيين القضاة فتختلف باختالف درجات القضاة‪ ،‬فهنالك قضاة المحكمة العليا‬
‫ويشترط اختيارهم من بين قضاة محكمة االستئناف أو من الذين شغلوا وظائف أو مهن قانونية لمدة ال‬
‫تقل عن ثماني عشرة سنة‪ ،‬ويشترط للتعيين من محكمة االستئناف االختيار من بين قضاة المحاكم‬
‫العامة‪ ،‬أو ممن شغلوا وظائف أو مهن قانونية لمدة ال تقل عن خمس عشرة سنة‪ ،‬كما يشترط للتعيين‬
‫لقضاة المحاكم العامة اختيارهم من بين قضاة الدرجة األولى‪ ،‬أو ممن شغلوا وظائف أو مهن قانونية‬
‫لمدة ال تقل عن اثنتي عشرة سنة‪ ،‬ويختار القضاة الجزئيين بالترقية من الدرجة الثانية إلى الدرجة‬
‫األولى ومن الدرجة الثالثة إلى الدرجة الثانية‪ ،‬أو من قضاة المحاكم الجزئية من الدرجات األولى‬
‫والثانية والثالثة السابقين أو ممن شغلوا وظائف أو مهن قانونية لست سنوات للتعيين في الدرجة‬
‫األولى وألربع سنوات للتعيين للدرجة الثانية‪ ،‬أو من بين المستشارين المساعدين للدرجة الثالثة‪-‬‬
‫"تفاصيل الشروط الخاصة للتعيين في المواد ‪ 25/26/27/28‬و‪ 29‬من قانون السلطة القضائية لسنة‬
‫‪1986‬م"‪.‬‬
‫د‪ -‬تدريب القضاة‪:‬‬
‫نظام التدريب القضائي ضارب في القدم بالسلطة القضائية السودانية‪ ،‬وأكثر القضاة –منذ العقود الماضية‪ -‬نالوا‬
‫تدريبا ا قضائيا ا وبرامج تحضير للدرجات العلمية العليا –بخارج السودان بالمملكة المتحدة وأمريكا وفرنسا ومصر‪-‬‬
‫وبداخل السودان‪ ،‬ومنذ عام ‪1995‬م وضعت السلطة القضائية في خطتها نظام التدريب الدائري المستمر الشامل‬
‫لجميع القضاة ووضعت وسائل تتبعها منذ وقتئذ‪ ،‬وبجانب ما سبق لنا ذكره عن حملة الدرجات العليا –الدكتوراه‬
‫والماجستير والدبلوم العالي‪ -‬فإن القضاة الذين ينالون تدريبا ا منتظما ا في ورش العمل والكورسـات القصيرة‬
‫والوسـيطة‪ ،‬وغيرها من المنتديات العلمية القضائية –داخليا ا وخارجيا ا‪ -‬يتراوح عددهم ما بين مائتين وخمسين‬
‫إلى ثالثمائة قاض سنوياا‪ ،‬يزيد عددهم قليالا أو ينقص قليالا بجانب جميع قضاة المحكمة العليا الذين يشاركون في‬
‫المنتديات والسمنارات وورش العمل المنتظمة التي تقيمها إدارتا التدريب القضـائي والمكـتب الفني والبحث‬
‫العلمي‬
‫وبجانب إدارة التدريب القضائي ومناشطها اآلنفة الذكر‪ ،‬فهنالك إدارة المكتب الفني والبحث العلمي‪ ،‬وتناط بها‬
‫استخراج المبادئ القضائية من األحكام الصادرة من المحكمة العليا ثم نشرها في مجالت األحكام القضائية حيث‬
‫يسترشد بها القضاة في أعمالهم‪ ،‬وتناط بهذه اإلدارة إعداد الدراسات والبحوث الفقهية والقانونية الالزمة للعمل‬
‫القضائي – وصياغة المنشورات القضائية وإقامة المنتديات العلمية والسمنارات والمؤتمرات التي تعالج فيها‬
‫القضايا القانونية المحلية واإلقليمية والدولية ‪ ..‬كما أنها تشرف على مكتبات المحاكم وتقوم بتزويدها بالمراجع‬
‫القانونية الالزمة‪ ،‬فضالا عن إشرافها على المكتبة اإللكترونية وتع اد نافذة السلطة القضائية على االنترنت من أكثر‬
‫المواقع ثرا اء في الوطن العربي‪.-‬‬
‫تفاصيل أنواع الدورات التدريبية الداخلية والخارجية لألعوام من ‪1998‬م حتى سنة ‪2005‬م بكتاب {سنوات‬
‫اإلنجاز‪ -‬الصادر عن السلطة القضائية صفحات ‪.}50-44‬‬
‫المحور الثالث‬
‫فاعلية عدل القضاء السوداني وخصائصه‬
‫نسلط الضوء على جانبين هامين في هذا المحور أولهما عن‪ :‬فاعلية‬
‫القضاء السوداني‪ -‬أو مدى إعمال‪( :‬مبدأ سيادة حكم القانون)‬
‫وثانيهما عن (خصائص القضاء السوداني)‪.-‬‬
‫البند األول‪-‬‬
‫فاعلية القضاء السوداني‬
‫" إعمال مبدأ سيادة حكم القانون ”‬
‫توضع الدساتير منظمة لسلطات الدولة الثالث –القضائية والتشريعية والتنفيذية‪ -‬ومبينة عالئق تلك السلطات‬
‫ببعضها‪ ،‬ولتبيان الحقوق الطبيعية لألفراد وضماناتها‪ .‬وتخضع الدولة بسلطاتها الثالث وبأفرادها ‪-‬على ح ّد‬
‫سواء‪ -‬لحكم الدستور والقانون‪ .‬وهذا هو ما أصطلح عليه بمبدأ "سيادة حكم القانون"‪.‬‬
‫وقد بلغ التطور التشريعي الدولي المعاصر ذروته حين وضع معياراا لنظام العدالة الجنائية الفاعلة‪ ،‬إعمال مبدأ‬
‫سيادة حكم القانون‪ ،‬ثم وضع (حماية معايير العدالة الجنائية) كأساس لمعرفة مدى إنفاذ مبدأ سيادة حكم القانون‬
‫في الدولة المعنية‪ -‬فتلك بعض مقررات المجلس االقتصادي واالجتماعي التابع لألمم المتحدة في سنة ‪2005‬م‪-‬‬
‫وعلى ضوئها نشير إلى تجذر هذا المبدأ في عقيدة أهل السودان ‪-‬بمختلف أطيافهم‪ -‬وفي واقعهم التشريعي‬
‫والعملي‪ .‬وحيث أن الدولة ومؤسساتها هي مظنة العسف دوما ا فقد عنيت المادة (‪ )123/5‬من دستور السودان‬
‫ا‬
‫صراحة بما يلزم أجهزة الدولة ومؤسساتها بتنفيذ أحكام وأوامر المحاكم كما‬
‫االنتقالي لسنة ‪2005‬م بالنص‬
‫عنيت مواد (وثيقة الحقوق) من دستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪ ،‬بالضمانات التي تكفل إنفاذ (مبدأ‬
‫سيادة حكم القانون)؛ إذ نصت المادة (‪ )31‬منه على أن‪ " :‬الناس سواسية أمام القانون‪ ،‬ولهم الحق في التمتع‬
‫بحماية القانون‪ ،‬دون تمييز بينهم بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو العقيدة الدينية أو الرأي‬
‫السياسي أو األصل العرقي" ‪ ،‬ولما كانت كفالة الحق في اللجوء إلى القاضي الطبيعي‪ ،-‬لينعم كل أحد بمحاكمة‬
‫عادلة علنية‪ ،‬فقد نصت المادة (‪ )35‬من الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م على أنه ‪:‬‬
‫"يكفل للكافة الحق في التقاضي‪ ،‬وال يجوز منع أحد من حقه في اللجوء إلى العدالة" كما نصت المادة‬
‫(‪ )34‬من ذات الدستور على قواعد المحاكمة العادلة –بذات المعايير المتفق عليها دولياا‪ ،‬من حيث‬
‫كيفيات كفالة (حق الدفاع)‪ ،‬وقواعد اإلثبات‪ ،‬وقرينة البراءة األصلية‪ ،‬وغير ذلك من حقوق‬
‫المتقاضين‪ .-‬هذا كله فضالا عن أن الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م قد جعلت وثيقة الحقوق عهداا بين‬
‫كافة أهل السودان وحكوماتهم مع اعتبار كل الحقوق والحريات المضمنة في االتفاقيات والعهود‬
‫والمواثيق الدولية لحقوق اإلنسان والمصادقة عليها من قبل جمهورية السودان جزءاا ال يتجزأ من‬
‫ا‬
‫صراحة –بقاعدة آمرة‪ -‬على أن تحمي الدولة هذه الوثيقة وتعززها وتضمنها‬
‫تلك الوثيقة‪ ،‬مع النص‬
‫وتنفذها‪.-‬‬
‫ومن الناحية التطبيقية فإن إنفاذ مبدأ سيادة حكم القانون‪ ،‬يتبدى جليا ا في أحكام القضاء السوداني‪-‬‬
‫الدالة على الفعالية التامة في إنفاذ المبدأ‪ ،‬ونسوق للمثال ما يلي‪-:‬‬
‫أ‪ -‬حكومة السودان ‪/‬ضد‪ /‬محمد برشم وآخرين‪:‬‬
‫كانت التهمة في هذه القضية تتمثل في التآمر بتقويض النظام الدستوري للبالد وفي جريمة إثارة‬
‫الحرب ضد الدولة –بموجب المادتين (‪ -)50/51‬من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م‪ -‬على‬
‫التوالي‪ .-‬وكان أحد المتهمين (س ‪ .‬ح) وزير الداخلية األسبق‪ ،‬وهو أحد أبرز المعارضين‬
‫للحكومة‪ ،‬فوجهت إليه التهمة بالمشاركة مع حركة التمرد )‪ (S.P.L.A‬في أعمال عسكرية ضد‬
‫القوات المسلحة السودانية‪ ،‬فأصدر القضاء السوداني قراره في الدعوى الجنائية بشطب االتهام‬
‫ضد وزير الداخلية األسبق‪ ،‬كما أصدرت المحكمة العليا تعديل األحكام الصادرة باإلدانة وإلغاء‬
‫عقوبات اإلعدام‪ .‬وفي ذلك برهان على عدم تأثر القضاء بأهواء السلطة السياسية‪.‬‬
‫ب‪ -‬قضية (حكومة السودان‪/‬ضد‪/‬علي أبو عنجة الموت وآخرين)‬
‫{وهي منشورة في مجلة األحكام القضائية لسنة ‪1991‬م صفحة ‪ 75‬وما بعدها}‬
‫القضية اشتهرت في أوائل التسعينات من القرن العشرين بقضية الضعين ورقمها‪ /‬غ‬
‫إ‪116/1992/‬م‪.-‬‬
‫وقد وجهت إلى المتهمين تهمة تحت المادة (‪ )55‬من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م (إفشاء‬
‫معلومات رسمية سرية متعلقة بشئون الدولة دون إذن)‪ ،‬كما وجهت إليهم تهمة تحت المادة (‪)50‬‬
‫من ذات القانون (إتيان أفعال بقصد تقويض النظام الدستوري للبالد أو بقصد تعريض استقالل البالد‬
‫ووحدتها للخطر)‪ ،‬وكانت المعلومات التي ت ام إفشاؤها متعلقة بمسائل أمنية دقيقة وبالغة الخطر‪،‬‬
‫ومن ث ام كانت األجهزة األمنية بالدولة حريصة كل الحرص على تحصيل قرار بإدانة المتهمين‬
‫ومعاقبتهم بأشد العقوبات ردعا ا‪.‬‬
‫أصدرت محكمة أول درجة حكمها بإدانة المتهمين تحت المادة (‪ )55‬المذكورة‪ ،‬وقضت بمعاقبتهم‬
‫بالسجن لمدد متفاوتة‪ ،‬غير أن الدائرة المختصة بنظر الطعن بالمحكمة العليا‪ -‬برئاسة رئيس‬
‫القضاء‪ -‬قد أصدرت حكمها بإلغاء اإلدانات والعقوبات كافة والحكم بتبرئة المتهمين مما نسب إليهم‪.-‬‬
‫لقد كان إفشاء تلك المعلومات السرية أثناء اشتعال أوار الحرب بين الحكومة والمتمردين‪ ،‬لذلك‬
‫ع ابرت هيئة االتهام بأن واقعة االتهام من شأنها إجهاض مفاوضات السالم وتأجيج فتيل الحرب من‬
‫جديد‪ -‬ولوال صالبة القضاء السوداني وإيمانه الراسخ بمبدأ سيادة حكم القانون‪ ،‬لما صدر ذلك القرار‬
‫بالبراءة في ظل تلك الظروف ورغم ذلك الحرص من األجهزة األمنية على ضرورة ردع المتهمين‪،‬‬
‫وحقا ا فإن (سيادة حكم القانون) يتبدى إنفاذه بجالء عندما تكون أحكام القضاء نافذة بهذا النحو‬
‫اآلنف‪ ،‬في حق الدولة ومؤسساتها وفي حق النافذين فيها‪.‬‬
‫ج‪ -‬محاكمة عمر محمد الطيب وآخرين‪:‬‬
‫(قضية ترحيل اليهود الفالشا إلى إسرائيل)‬
‫المتهم هو نائب رئيس الجمهورية األسبق‪ ،‬وقد كان وقت تورطه في التهم محل المحاكمة رئيسا ا لجهاز أمن‬
‫الدولة‪ ،‬حيث تسللت جماعات من يهود الفالشا من أثيوبيا إلى السودان وسافرت إلى إسرائيل بعضهم عن طريق‬
‫الخرطوم نيروبي وبعضهم من مطار مهجور قرب أركويت بشرق السودان وبعضهم سافروا علنا ا تحت ستار‬
‫برنامج إعادة توطين الالجئين التابع لمعتمد شئون الالجئين باألمم المتحدة‪ ،‬وكانت الشبكة العاملة على الترحيل‬
‫تحت إشراف وكالة االستخبارات األمريكية )‪ (C.I.A‬وجهاز االستخبارات اإلسرائيلي (الموساد)‪ .‬في البدء عند‬
‫انكشاف المخطط قام المتهم المذكور باستدعاء السفير األمريكي بالخرطوم وإخطاره برفض السودان لترحيل‬
‫اليهود الفالشا عبر أراضيه وإخطاره بخطورة التورط األمريكي في العملية‪ ،‬فاعتذر له السفير األمريكي‪ .‬غير أن‬
‫المتهم العتبارات ذكر في دفاعه أنها (سياسية) قام بعدئذ باإلشراف بنفسه على عمليات الترحيل في تكتم شديد‪.‬‬
‫بلغ عدد المرحلين (‪ )6150‬ستة اآلف ومائة وخمسون يهوديا ا‪ .‬في أمسية ‪4/5/1985‬م غادرت الرحلة الثامنة‬
‫والعشرون مطار الخرطوم فأذاعت هيئة اإلذاعة البريطانية في نشرة األخبار المسائية تفاصيل عملية ترحيل‬
‫اليهود الفالشا من السودان إلى إسرائيل عبر جسر جوي مباشر‪ ،‬فتوقفت عمليات الترحيل أثر ذلك‪ .‬بعئذ حضر‬
‫(جورج بوش‪-‬األب) إلى السودان‪ -‬وهو يومئذ نائب الرئيس األمريكي‪ -‬واتفق مع مضيفه (المتهم) على استئناف‬
‫ترحيل اليهود الفالشا إلى إسرائيل بطائرات أمريكية تهبط في مطار العزازة تحت ستار إحضار مواد إغاثة‪ .‬وبعد‬
‫سقوط نظام حكم الرئيس نميري قدم المتهم للمحاكمة تحت تسع تهم من قانون عقوبات السودان لسنة ‪1983‬م‬
‫منها تهمة (الخيانة والتجسس والثراء الحرام والتآمر مع دولة أجنبية – وتهم أخرى‪.)-‬‬
‫لقد انتهجت المحكمة وهيئتا االتهام والدفاع نهجا ا مهنيا ا رائعا ا وفريداا في عرض القضية بصبر ودقة‬
‫بلوغا ا إلى عدل القضاء‪ ،‬مما جعل المحكمة تشيد بهيئة الدفاع ألنها لم تدخر صبراا وال جهداا وال علما ا في‬
‫سبيل القيام بواجبها المقدس في الدفاع عن المتهمين‪ ،‬دون االلتفات إلى ما قد يصيبهم من جراء‬
‫دفاعهم عن مواقف ووقائع وأشخاص يعلمون سلفا ا موقف الرأي العام حيالهم‪ ،‬وقالت المحكمة بأنه‬
‫يكفي هيئة الدفاع فخراا أنها اجتازت االمتحان الحقيقي للمحامي الملتزم بأخالقيات مهنته‪ ،‬وهو التصدي‬
‫للدفاع عن المتهم الذي حكم الرأي العام بإدانته وتجريمه قبل مثوله أمام المحكمة‪.‬‬
‫ولئن كانت تلك اإلشادة مستحقة لهيئة الدفاع‪ ،‬فإن اإلشادة مستحقة للمحكمة ‪-‬وللقضاء السوداني‪ -‬الذي‬
‫يشق طريقه خالل المحاكمة باستقالل وحيدة كاملين‪ ،‬دون أن يعبأ أو يأبه أو يتأثر بالرأي العام‬
‫ومشاعره المعبأة والمتحفزة للتهليل لسماع إدانات للمتهمين‪ -‬بل ولحقبة كاملة من نظام حكم آفل‪.- .‬‬
‫راجع نص الحكم في كتاب أشهر المحاكمات السياسية في السودان‪ -‬إعداد هنري رياض طبعة دار الجيل‬
‫سنة ‪1987‬م صفحة ‪ 56‬وما بعدها‬
‫د‪ -‬قضية (لجنة جامع الخليفة عبد هللا ‪/‬ضد‪ /‬معتمد العاصمة القومية)‪:‬‬
‫أصدر معتمد العاصمة القومية –الخرطوم‪ -‬قراراً إدارياً بتكوين لجنة إلدارة مسجد الخليفة عبد هللا بأم درمان دون‬
‫إخطار اللجنة المعتمدة من الشئون الدينية واألوقاف‪ ،‬وقد نعى الطاعنون بأن معتمد العاصمة القومية ال يملك الحق في‬
‫ذلك وبأن في فعله إساءة الستعمال السلطة‪ ،‬فأصدرت المحكمة العليا السودانية حكمها بإلغاء القرار الصادر من معتمد‬
‫العاصمة القومية ‪.‬‬
‫هـ‪ -‬قضية (التجاني محمد جعفر ‪/‬ضد‪ /‬رئيس الجمهورية)‪:‬‬
‫{ رقم م ع‪/‬ط م‪20/1997/‬م}‬
‫كان الطاعن ‪-‬التجاني محمد جعفر‪ -‬يعمل في وظيفة مسجل بجامعة أم درمان اإلسالمية‪ .‬بتوصية من مجلس الجامعة‬
‫ثم من وزير الدولة بوزارة العمل واإلصالح اإلداري‪ ،‬أصدر مجلس الوزراء قراره رقم (‪506/1995‬م) بإحالة‬
‫الطاعن مع آخرين للتقاعد بالمعاش وبإلغاء الوظيفة استناداً لنص المادة (‪/50‬د) من قانون الخدمة المدنية –بعد دراسة‬
‫وجوه الطعن أصدرت المحكمة العليا حكمها بإلغاء القرار المطعون فيه‪.-‬‬
‫حيثيات الحكم في كتاب أشهر القضايا اإلدارية والدستورية في السودان‪ -‬إعداد وترتيب هنري رياض وفاروق أحمد‬
‫إبراهيم طبعة دار الجيل سنة ‪1988‬م صفحة ‪ 226‬وما بعدها‪.‬‬
‫و‪ -‬قضية (مبارك على جاد هللا ‪/‬ضد‪ /‬وزير العدل‪ -‬النائب العام الخرطوم)‬
‫{ رقم م ع‪/‬ط إ‪1/2001/‬م}‬
‫الطاعن مبارك علي جاد هللا – مواطن ترشح النتخابات المجلس الوطني – البرلمان‪ -‬بدائرة المتمة‪-‬‬
‫والية نهر النيل‪ -‬تقدم بشكوى لدى نيابة االنتخابات في ‪18/12/2000‬م ضد المرشح المنافس (الطيب‬
‫إبراهيم محمد خير – مستشار رئيس الجمهورية ووزير داخلية سابق ووزير في وزارات أخرى ومن‬
‫النافذين في الدولة) (ود‪ .‬مجذوب الخليفة أحمد والي والية الخرطوم –وقتئذ) (ومحمد الماحي محمد‬
‫محافظ المتمة)‪ ،‬وتلخصت التهمة في ارتكاب المذكورين لمخالفة ممارسة األساليب الفاسدة في‬
‫االنتخابات‪ -‬مخالفين أحكام المادة (‪ )5‬من قانون منع األساليب الفاسدة مقروءة مع المادة (‪ )3‬من‬
‫القواعد العامة لالنتخابات‪ ،‬بدعوى أنهم استخدموا سيارات الدولة في الحملة االنتخابية الخاصة‬
‫بالمرشح الطيب إبراهيم محمد خير وأنهم وعدوا الناخبين بتقديم خدمات وتبرعات‪.‬‬
‫قام وكيل النيابة برفض فتح الدعوى الجنائية بدعوى عدم الحصول على إذن لفتح الدعوى وفقا ا ألحكام‬
‫المادة (‪ )35‬من قانون اإلجراءات الجنائية لسنة ‪1991‬م‪ ،‬تأيد القرار من وزير العدل‪ ،‬فتقدم الطاعن‬
‫بطعن إداري إلى المحكمة العليا السودانية التي أصدرت حكمها بإلغاء قرار وزير العدل‪.‬‬
‫والحالة مثال صادق إلعمال مبدأ (المساواة أمام القانون) كما أنه ينبئ عن إنفاذ مبدأ سيادة حكم‬
‫القانون؛ حيث صدر القرار في مواجهة النافذين في السلطة التنفيذية‪ -‬انتصاراا لحق المواطن العادي‪.-‬‬
‫ز‪ -‬قضية جوزيف قرنق وعز الدين علي عامر‬
‫‪/‬ضد‪/‬‬
‫مجلس السيادة " رئاسة الجمهورية اآلن"‬
‫الجمعية التأسيسية "البرلمان"‬
‫النائب العام‬
‫في يوم ‪22/11/1995‬م أجاز البرلمان السوداني باإلجماع تعديالت في دستور السودان المؤقت المعدل في سنة‬
‫‪1964‬م بإضافة حكم شرطي لنص المادة (‪ )5/2‬من الدستور المذكور وكان مفاد التعديل هو منع الترويج‬
‫للفكر الشيوعي سواء كان محليا ا أو دوليااُُ ‪ ،‬ومنع الترويج لإللحاد ومنع السعي لقلب نظام الحكم بأية وسيلة‬
‫غير مشروعة‪.‬‬
‫كما أجاز البرلمان في ذات التاريخ إضافة حكم شرطي في بند جديد بعد البند {‪ }2‬من المادة (‪ -)5‬مفاده عدم‬
‫مشروعية أية منظمة تنطوي أهدافها أو وسائلها على مخالفة الحكم الشرطي المضاف بالبند {‪ }2‬على أن‬
‫يكون للبرلمان إصدار أي تشريع يراه الزما ا لتنفيذ أحكام ذلك النص المضاف‪ .-‬وبالفعل أصدر البرلمان في يوم‬
‫‪8/12/1965‬م تعديالا للمادة (‪ )46‬من ذات الدستور المذكور‪ ،‬يقضي بعدم أهلية األشخاص الذين تنطبق‬
‫عليهم التعديالت المضافة باألحكام الشرطية لعضوية البرلمان‪ ،‬فسقطت –بحكم الدستور‪ -‬عضوية أعضاء‬
‫الحزب الشيوعي في الجمعية التأسيسية (البرلمان)‪ ،‬وطرد من البرلمان كل من‪( :‬محمد إبراهيم نقد وعز الدين‬
‫على عامر وحسن الطاهر زروق وعمر مصطفى المكي والرشيد نايل وعبد الرحمن الوسيلة وجوزيف قرنق‬
‫والطاهر عبد الباسط)‪.‬‬
‫لم يستسلم الحزب الشيوعي بذلك المصير‪ ،‬بل رفع دعوى دستورية أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا‪ -‬وفي‬
‫وقتها لم تكن هناك محكمة دستورية مستقلة كما هو اليوم‪ -‬فأصدرت المحكمة العليا‪ -‬الدائرة الدستورية حكمها في‬
‫‪22/12/1966‬م بتقرير بطالن التعديالت الدستورية ‪ .‬فقام رئيس مجلس السيادة الزعيم إسماعيل األزهري‬
‫بالتعقيب على الحكم الدستوري بكلمات مفادها عدم اختصاص المحكمة العليا في النظر فيما تصدره الجمعية‬
‫التأسيسية (البرلمان) من تعديالت دستورية‪ .‬وعلى اثر حديث رئيس مجلس السيادة قدا م رئيس القضاء السوداني‬
‫(بابكر عوض هللا) استقالته باعتبار أن ما صدر من رئيس مجلس السيادة يعتبر انتهاكا ا لمبدأ استقالل القضاء‪.-‬‬
‫فتلك هي المحكمة العليا التي توارث القضاء السوداني تألقه كابراَُا عن كابر‪ ،‬وذلك هو رئيس القضاء الذي ال‬
‫يتوانى من تقديم استقالته ألدنى تعقيب على حكم القضاء يصدره رئيس مجلس السيادة (رئيس الجمهورية حاليا ا) فيا‬
‫ترى أيهما أعجب وأمعن في إنفاذ سيادة حكم القانون وفي صيانة مبدأ استقالل القضاء‪-‬؟‪.‬‬
‫إن األمثلة التي تتبدى من خاللها إعمال القضاء السوداني لمبدأ سيادة حكم القانون‪ ،‬والتي تتجلى من خاللها تنزيل‬
‫مبدأ استقالل القضاء السوداني ال تكاد تحصى‪ -‬ونكتفي منها بهذا القدر وال نداعي أن ما سقناه منها‪ ،‬هي أكثرها‬
‫برهانا ا وأجالها بيانا ا‪.-‬‬
‫راجع أسباب الحكم بكاملها في كتاب أشهر القضايا الدستورية في السودان – إعداد وترتيب هنري رياض‪ -‬طبعة‬
‫دار الجيل سنة ‪1984‬م صفحة ‪ 9‬وما بعدها‪.-‬‬
‫البند الثاني‬
‫خصائص القضاء السوداني‬
‫المصدر التاريخي للتشريعات السودانية ‪ -‬أو قل مرجعيتها‪ -‬هو ما يضفي خصوصية ألحكام القضاء‬
‫السوداني‪ ،‬ولعل أبرز تلك الخصائص تتمثل فيما يلي‪-:‬‬
‫أوالا‪ :‬المرونة‬
‫تتبدى المرونة بصفة عامة فيما يخوله التشريع –الدستور والقانون‪ -‬لرئيس القضاء من إصدار‬
‫منشورات قضائية ضمانا ا لحسن سير العدالة‪ ،‬ترسيخا ا لما استقرت عليه التشريعات السودانية وآخرها‬
‫دستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪ ،‬حيث جاءت المادة (‪ )158‬منه بتخويل رئيس القضاء إصدار‬
‫منشورات قضائية لضمان إعمال أحكام المادة (‪ )156‬من ذات الدستور‪ ،‬وإلرشاد المحاكم إلى كيفية‬
‫مراعاة المبادئ المقررة لتصريف العدالة بالعاصمة القومية‪ .-‬علما ا بأن المنشورات التي يصدرها‬
‫رئيس القضاء ‪-‬بهذا التفويض الدستوري‪ -‬تأخذ حجية القانون في اإللزام‪.-‬‬
‫أما بالنسبة للنصوص القانونية‪ ،‬فهناك المادة (‪ )212‬من قانون اإلجراءات الجنائية لسنة ‪1991‬م‬
‫التي تخول لرئيس القضاء إصدار قواعد من شأنها إرشاد القضاة في المسائل القضائية‪.-‬‬
‫وهنالك السوابق القضائية ووفقا ا ألحكام المادة (‪/3‬خامسا ا) من قانون أصول األحكام القضائية لسنة‬
‫‪1983‬م فإن القاضي يسترشد بها –فيما ال نص فيه‪ ،-‬وقد جاءت المادة (‪ )6/2‬من قانون‬
‫اإلجراءات المدنية لسنة ‪1983‬م –بصيغة آمرة‪-‬بأن يطبق القاضي المبادئ التي استقرت قضا اء في‬
‫السودان عندما ال يكون هناك نص تشريعي للمسألة‪ ،-‬وال يخفى أن هذا النظام يكون عونا ا للقاضي‪،‬‬
‫حيث يجد ضالته في هذا المصدر االحتياطي الخصيب‪.-‬‬
‫ومن مظاهر المرونة إعمال العرف‪ ،‬وقد أحالت إلى إعماله المادة (‪ )5/2‬من دستور السودان‬
‫االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪ ،‬والمادة (‪/3‬سادسا ا) من قانون أصول األحكام القضائية لسنة ‪1983‬م‪،‬‬
‫والمادة (‪ )6‬من قانون اإلجراءات المدنية لسنة ‪1983‬م‪ ،‬والمادة (‪/5‬ب) من ذات القانون‪ ،‬ومن‬
‫قواعد الفقه المنصوص عليها في قوانين أخرى قاعدة (العادة محكمة) –راجع المادة (‪ )5‬من‬
‫قانون المعامالت المدنية لسنة ‪1984‬م والمادة (‪/6‬د) من قانون األحوال الشخصية للمسلمين لسنة‬
‫‪1991‬م‪ ،‬كما أن هناك مواد أخرى عديدة مبعثرة ضمن أحكام هذين القانونين اآلخرين وفي قوانين‬
‫أخرى‪.‬‬
‫وهذا التوسع في مرجعية العرف يجعل من القاضي السوداني خبيراا مكينا ا في معرفة أحوال الناس؛‬
‫حيث أن العرف مما يدخل في معنى (العلم القضائي) )‪( The Judicial Notice‬فهو من‬
‫الوقائع التي ال تحتاج إلى إثبات كما هو معلوم قانونا ا‪.‬‬
‫ويمثل العرف تعبيراا صادقا ا ألصالة المرجعية القضائية التي تبنى عليها األحكام‪ ،‬فضالا عما تلقاه‬
‫األحكام العرفية من رضاء وتسليم من المتخاصمين‪ .-‬وتحظى محاكم المدن واألرياف بنصيب وافر‬
‫من إعمال األعراف المحلية‪ ،‬فتؤدي بذلك رسالتها العدلية بما يبعث الطمأنينة في أوصال المجتمع‪.-‬‬
‫ومن مظاهر المرونة التي ورثها القضاء السوداني‪ ،‬ما خولته المادة الرابعة من قانون القضاء‬
‫المدني لسنة ‪1900‬م حيث كانت تقضي بوجوب الفصل في المنازعات وفقا ا لمقتضيات العدالة‬
‫واإلنصاف والوجدان السليم في الحاالت التي لم يرد بشأنها نص تشريعي في القانون‪ .‬وكان االتجاه‬
‫العام للقضاء السوداني‪ ،‬إبان العقود األولى من القرن العشرين‪ ،‬هو تفسير عبارة "مقتضيات‬
‫العدالة واإلنصاف" بما استقر عليه القضاء اإلنجليزي‪ ،‬باعتباره المصدر التاريخي للقانون‬
‫المذكور‪ ،‬بينما ذهب فريق آخر إلى اتجاه مغاير بتفسير تلك العبارة بما استقر عليه التشريع‬
‫والقضاء الهنديين‪ ،‬باعتبار أن قانون القضاء المدني كان مستمداا من القانون الهندي بدرجة شملت‬
‫استعارة األلفاظ والتعبيرات منه‪ ،‬ثم ظهر رأي ثالث في نهايات العقد السادس من ذات القرن يدعو‬
‫إلى سدّ النقص من القانون المصري لتوفر وجوه الشبه بين البلدين في الدين واللغة والعادات‬
‫راجع كتاب قانون اإلجراءات المدنية السوداني – الدعوى‪ -‬بروفسير محمد الشيخ عمر الجزء‬
‫األول من صفحة ‪ 5‬حتى صفحة ‪ – 8‬طبعة ‪1980‬م‪.-‬‬
‫وخالل العقد الثامن من ذات القرن‪ ،‬ذهب فريق من قضاة المحكمة العليا إلى تفسير تلك العبارة‬
‫بأنها تعني قواعد وأحكام الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ومنذ صدور قانون القضاء المدني لسنة ‪1900‬م‪ -‬ثم قانون القضاء المدني لسنة ‪1929‬م وحتى‬
‫صدور قانون اإلجراءات المدنية لسنة ‪1974‬م‪ ،‬ظلت تلك العبارات على حالها تضفي ثرا اء على‬
‫اإلرث القضائي السوداني‪ ،‬وقد جاءت المادة (‪ )6‬من هذا القانون األخير بتعديل طفيف لما كان‬
‫موروثاا‪ ،‬حيث نصت فقرتها الثانية على تطبيق المبادئ التي استقرت قضا اء في السودان ومبادئ‬
‫الشريعة اإلسالمية والعرف والوجدان السليم في المسائل التي ال يحكمها نص تشريعي‪ ،‬فظلت‬
‫تلك المرونة التشريعية باقية ‪ ،‬ثم امتدت إلى قانون اإلجراءات المدنية لسنة ‪1983‬م‪ -‬السارية‬
‫حتى اليوم‪ -‬فكان نتاج ذلك هو صون القضاء السوداني‪ -‬على مر العصور‪ -‬من دواعي الجمود‬
‫والخمود‪ ،‬فضالا عن أن التعديل الذي طرأ في سنة ‪1974‬م –والذي ظل ساريا ا في قانون‬
‫اإلجراءات المدنية لسنة ‪1983‬م‪ -‬قد نأى بأحكام القضاء عن التباين والتنافر في الرؤى‪.-‬‬
‫ومن وجوه المرونة ما يكفله تشريعنا من سلطة طبيعية للقاضي‪ ،‬فال تضحية بالجوهر تقديسا ا‬
‫للشكل‪ ،‬وقد نصت المادة (‪ )303/2‬من قانون اإلجراءات المدنية لسنة ‪1983‬م على أن‬
‫اإلجراءات المنصوص عليها في ذلك القانون‪ ،‬ال تعتبر مقيدة لسلطة المحكمة الطبيعية في إصدار‬
‫األوامر التي تراها ضرورية لتحقيق العدالة‪ ،‬أو لمنع سوء استقالل إجراءات المحكمة‪.-‬‬
‫وعلى ذات النسق عنيت المادة (‪/70‬ب) من ذات القانون بالنص على حالة من حاالت المرونة‬
‫المخولة للقضاء السوداني‪ ،‬حيث أجازت المادة المذكورة للمحكمة –عند الضرورة‪ -‬م اد‬
‫الميعاد المعين التخاذ أي إجراء سواء كان ذلك قبل أو بعد انقضاء األجل المحدد بموجب‬
‫أحكام هذا القانون‪ ،‬والقاضي وحده هو الذي يقدر مدى توفر حالة الضرورة المنصوص‬
‫عليها‪ ،‬وهذه المرونة المكفولة للقاضي ترفع عنه كثيراا من الحرج‪ ،‬فيعني بالجوهر‬
‫متجاوزاا الشكل بلوغا ا إلى عدل القضاء‪.-‬‬
‫ثانيا ا‪ :‬الحياد المطلق‪:‬‬
‫ال يكاد يخلو دستور معاصر من تقرير مبدأ (حياد القاضي)‪ ،‬غير أن هذا المبدأ –في القضاء‬
‫السوداني‪ -‬يأخذ بعداا يتجاوز مجرد التنظير الفلسفي‪ ،‬ليبلغ إلى عوالي (السمة الواقعية)‬
‫العتبارات عديدة نورد منها ما يلي‪-:‬‬
‫الموروث الحضاري الذي اصطبغ به القاضي السوداني‪ ،‬منذ أكثر من ألفي عام‪ -‬حضارة كرمة‪،-‬‬
‫حيث أثبتت دراسات حفريات اآلثار أن القاضي في تلك الحضارة كان يحني رأسه إلى‬
‫األرض‪ ،‬في مجلس القضاء‪ ،-‬فال يرفع عينيه مطلقاا‪ ،‬ومن ثم فال يستبين شخصيات‬
‫الخصوم‪ ،‬بحيث ال يميز من كان منهم خفيراا ومن كان منهم وزيراا‪-‬أو نحو ذلك‪ ،-‬وكان ذلك‬
‫هو مبتدأ ميالد مبدأ المساواة أمام القضاء‪ ،-‬وقد تواصل نقل ذلك اإلرث جيالا بعد جيل‪.‬‬
‫التدقيق المتناهي في صفات وخصائل من يتولى القضاء‪ .‬ونشير هنا إلى أحكام المادة (‪ )14‬من الئحة تنظيم‬
‫العمل القضائي لسنة ‪1996‬م‪ -‬وهي ذات المادة (‪ )11‬من الالئحة القديمة‪ -‬ومضامينها موروثة منذ عهد‬
‫الممالك اإلسالمية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر–الميالديين‪ -‬وبموجبها فعلى القاضي أن‬
‫يتوخى في جميع األوقات العدالة والنزاهة‪ ،‬وأن يكون عفيفا ا وقوراا‪ ،‬وأن يلتزم في سلوكه بكل ما يعلي‬
‫همته ويحفظ كرامته‪ ،‬ويصون سمعته وسمعة القضاء‪ .‬وأن يبتعد تبعا ا لذلك عن كل ما يشينه أو يحط من‬
‫قدر منصبه‪ ،‬أو يشكك في عمله وأمانته ونزاهته‪ ،‬أو يشين القضاء‪ ،‬كما أن عليه أن يؤدي عمله بإخالص‬
‫وتفان‪ ،‬وأن يراعي المساواة في المعاملة بين الخصوم‪ ،‬والحلم في أدائه‪ ،-‬وأن يحرص على سرعة البت‬
‫ا‬
‫خاصة إذا كانت ذات صفة مستعجلة‪ ،-‬وأن يتجنب استغالل سلطته أو نفوذه‬
‫في القضايا الموكولة إليه‪،‬‬
‫بطلب أية منفعة لنفسه أو ألي من أفراد عائلته أو معارفه أو لدفع أي ضرر عنها أو عنهم‪ ،‬أو إليقاع أي‬
‫ضرر على أي شخص آخر‪ ،-‬وأن يسلك في جميع األوقات السلوك الالئق بمركزه ووظيفته‪ ،‬وأن يؤدي‬
‫واجباته على الوجه األكمل‪ ،‬وأن يلتزم بالقانون في أحكامه وفي تصرفاته‪ ،-‬كما أن عليه التنحي عن نظر‬
‫أي نزاع له فيه أية مصلحة مهما كانت‪ ،‬أو كان قد سبق له أن نظره‪ ،‬أو أدلى فيه برأي أو ترافع أو أوكل‬
‫فيه كمحام ألي من أطراف ذلك النزاع‪ ،-‬ويجب عليه أن يرتدي أثناء العمل الزي الرسمي للقضاة –إن‬
‫وجد‪ -‬أو الزي الالئق‪ .-‬وقد نصت الفقرة الثانية من ذات المادة على أنه ال يجوز للقاضي إفشاء أية‬
‫معلومات وقف عليها بسبب مهنته‪ ،‬ما لم تكن تلك المعلومات قد نشرت نتيجة لعلنية اإلجراءات‪ ،-‬كما‬
‫نصت الفقرة الثالثة منها على أنه ال يجوز للقاضي أن يشتري باسمه أو باسم أي من أفراد عائلته أو بأي‬
‫اسم مستعار محل الحق المتنازع عليه أمام المحاكم‪.‬‬
‫وقد جاءت المادة (‪ )15‬من ذات الالئحة بتحريم قبول القاضي للهدايا من الخصوم أو ذويهم‪ ،‬وبتحريم اإلذن‬
‫ألي من أفراد عائلته في قبولها‪ ،‬ثم جاءت المادة (‪ )16‬من ذات الالئحة بتحريم ممارسة التجارة على‬
‫القاضي‪ ،‬بل جاءت المادة (‪ )17‬من ذات الالئحة بمنع القاضي من االعتياد على اإلستدانة‪ ،‬وذلك نأيا ا به‬
‫عن الشبهات كافة‪.-‬‬
‫ثالثا ا‪ :‬الصلح و والعفو‪:‬‬
‫الصلح والعفو قرينان وفلسفتهما متجذرة في وجدان األمة السودانية‪ ،‬ففي القرآن الكريم أكثر‬
‫وتحض عليه‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪ " :‬فمن عفا وأصلح فأجره على‬
‫من ثالثين آية تمتدح الصلح‬
‫ا‬
‫ا‬
‫ا‬
‫إيمانية ترقى به إلى درجة التقوى‪ ،‬قال تعالى‪" :‬‬
‫قيمة‬
‫هللا "‪ .‬وآيات القرآن تجعل من الصلح‬
‫فاتقوا هللا وأصلحوا ذات بينكم " ‪ .-‬وهذا مجال واسع نكتفي منه بهذا القدر‪.-‬‬
‫وتخول المرجعية التشريعية للقضاء السوداني أولوية السعي بالصلح‪ ،‬عند نظر الدعاوى ابتدا اء‬
‫أحيانا ا وبعد تمام الثبوت أحيانا ا أخرى‪ ،‬حسبما يقتضيه نوع الدعوى‪ .‬وقد فطن القضاء السوداني‬
‫ألهمية الصلح في فض المنازعات بالطرائق المثلى وبما يبعث الطمأنينة في المجتمع‪ ،‬منذ أكثر‬
‫من ستة قرون‪ -‬من بدايات عهد الممالك اإلسالمية كما ألمعنا إليه من قبل‪ ،-‬حيث كان هناك نظام‬
‫"قضاء الصلح"‪ ،‬وتواصل ذلك الموروث إلى عصرنا الحاضر‪ ،‬فهنالك "لجان الصلح" ببعض‬
‫المحاكم –دوائر األسرة‪ -‬وتشكل من ذوي األهلية والمعرفة بأحوال الناس وأعرافهم‪ ،‬وهنالك من‬
‫الصلح ما يناط بالقاضي‪ ،‬فتبسط فضيلة الصلح ظالله الوارفة‪ ،‬فال يكاد يخلو منها صنو دعوى‬
‫من أنواع األقضية‪ ،‬بما في ذلك الدعاوى الجنائية الخطيرة – كالقصاص والجراح‪.-‬‬
‫وأصل إباحة الصلح والعفو في تلك الدعاوى‪ ،‬هو اشتراك الحقوق فيها –والحق الخاص فيها أغلب‪،-‬‬
‫لذلك وردت آية القصاص في القرآن الكريم‪ ،‬مقرونة بالحض على العفو‪ " :‬فمن عفي له من أخيه‬
‫ا‬
‫مقرونة بالحض على العفو‪ " :‬وجزاء سيئة‬
‫شئ فإتباع بالمعروف" كما وردت آية مماثلة في الجزاء‬
‫سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على هللا " ويثبت الحق في طلب القصاص‪ -‬بعد تمام اإلدانة‪-‬‬
‫ابتداء للمجني‬
‫ابتدا اء للمجني عليه‪ ،‬ثم ينتقل إلى أوليائه‪ ،.‬كما يثبت حق العفو الذي يسقط القصاص‬
‫ا‬
‫عليه‪ ،‬في حالة الجراح العمد‪ ،‬وألولياء الدم –ورثة القتيل‪ -‬في حالة القتل العمد ولولي المجني عليه‬
‫–بعد صدور قرار اإلدانة‪ -‬في حالة العمد من القتل أو الجراح‪ ،‬أن يطالب بالقصاص أو بالدية‪ ،‬كما أن‬
‫له المصالحة على مال أو العفو الشامل‪ ،‬وله في حالتي شبه العمد والخطأ من القتل أو الجراح‪،‬‬
‫المطالبة بالدية أو المصالحة أو العفو‪.‬‬
‫ودية النفس مائة من اإلبل‪ ،‬أو ما يعادل قيمتها من النقود –وفي األعضاء ديات ناقصة مقدرة‪ -‬وفي‬
‫بعضها وبعض الجراح ديات غير مقدرة ‪-‬يقدرها القاضي باالستعانة بالخبرة الطبية‪ -‬ورئيس القضاء‬
‫وحده هو المناط به تقدير قيمة الديات بالنقود‪ ،‬بعد التشاور مع الجهات المختصة –وفقا ا لمقتضيات‬
‫المادة (‪ )42/1‬من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م‪ ،-‬وهذا التفويض المخول لرئيس القضاء من شأنه‬
‫إضفاء المرونة والخصوصية للقضاء السوداني‪.-‬‬
‫ويولي القضاء السوداني أولوية لتلك المرجعيات عند نظره لألقضية‪ ،‬يعينه في تفعيلها الموروث‬
‫الثقافي ألطياف األمة السودانية‪ ،‬حيث تتحلى جميعها بقيم اإليثار والمروءة والشهامة‪ ،‬وذلك ما‬
‫يضفي تميزاا لفلسفة الصلح والعفو في بالدنا من وجهين أولهما‪ :‬كثافة تنزيله في ارض الواقع‪،‬‬
‫وثانيهما‪ :‬تنقية النفوس بما يمحو أثر الجريمة من النفوس‪ ،‬وال يكاد يمضي أسبوع واحد دون أن‬
‫يعرض على المحكمة العليا السودانية – الدائرة الجنائية‪ -‬طلبات للتنازل‪ -‬بطيب نفس‪ -‬عن القصاص‬
‫في دعاوى سبق فيها الحكم على المدانين باإلعدام واكتسبت أحكامها صفة االنتهائية‪ .‬ومن مئات‬
‫النماذج في هذا الصدد نعرض مثاالا واحداا – بقدر ما يقتضيه المقام‪.-‬‬
‫ففي محاكمة (حامد سعدان حامد وآخر )‪ ،‬أيدت المحكمة العليا القومية اإلدانة والعقوبة الصادرة‬
‫باإلعدام شنقا ا حتى الموت قصاصاا‪ ،‬في مواجهة المدانين حامد سعدان حامد والخير محمد سليمان‬
‫تحت المادة (‪ )21/130/1‬من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م‪ .‬وبتاريخ ‪30/12/2008‬م مثل أولياء‬
‫دم القتيل موسى محمد ضو البيت‪ ،‬وهما والده محمد ضو البيت األزيرق ووالدته حواء خميس‬
‫البدوي طبقا ا لإلعالم الشرعي رقم ‪681/2007‬م الصادر من محكمة األبيض لألحوال الشخصية‬
‫وتنازال عن القصاص لوجه هللا تعالى‪ ،‬دون أن يقترن هذا التنازل بالمطالبة بالدية أو المصالحة على‬
‫مال وفق ما تخوله لهما أحكام المادة (‪ )32/4‬من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م‪.-‬‬
‫لهذا وعمالا بنص المادة (‪/31‬ب) من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م يتعين إسقاط القصاص في‬
‫مواجهة المدانين المذكورين ومعاقبة كل منهما تعزيراا بالسجن لمدة أربع سنوات اعتباراا من تاريخ‬
‫إيداعهما الحراسة في ‪21/9/2006‬م – انتهى‪ -‬وبنا اء على هذه الحيثيات صدر األمر النهائي بقبول‬
‫التنازل وبإلغاء عقوبة اإلعدام شنقا ا حتى الموت قصاصا ا في مواجهة المدانين المذكورين وبالحكم‬
‫عليهما بالسجن للمدة المذكورة‪.-‬‬
‫وإذا كان العفو عن القصاص مقابل الدية‪ ،‬فإن (العاقلة) تتعاون في أداء الدية إذا كانت الجريمة من‬
‫قبيل شبه العمد أو الخطأ من القتل أو الجراح‪ ،‬ويدخل في معنى العاقلة أفراد العصبة من أقرباء‬
‫الجاني أو الجهة المؤمن لديها‪ ،‬أو الجهة المتضامنة ماليا ا معه‪ ،‬أو الجهة التي يعمل بها إذا كانت‬
‫جنايته في سياق عمله‬
‫ا‬
‫ا‬
‫فاعلة للمحور التصالحي من‬
‫ووسيلة‬
‫وال مراء في أن (نظام العاقلة) يعدا أنموذجا ا تكافليا ا رائعاا‪،‬‬
‫العدالة المجتمعية ‪-‬‬
‫رابعااُا ‪ :‬الخبرة التراكمية في ترسيخ قواعد العدالة المجتمعية‪:‬‬
‫" تسوية النزاعات القبلية”‬
‫أفاد اإلنجليز من الموروث السوداني المتجذر في مجال العدالة المجتمعية‪ ،‬مدركين أهميتها في حل‬
‫النزاعات والفصل فيها‪ ،‬الستقرار المجتمع السوداني المكون من األعراق المختلفة والقبائل المتعددة‬
‫المتنافسة على الموارد المادية الشحيحة‪ ،‬سواء كانت موارد المياه أو المرعى أو الزراعة أو‬
‫االحتطاب‪ ،‬حيث قام قاضي المحكمة العليا (شارلس سيسل كمنجز) بتدوين مذكرة في عام ‪1939‬م‬
‫حول قضية مشاجرة بين قبيلتي العميرية والمغاوير‪ ،‬أرشد فيها لبعض طرائق الفصل في النزاعات‬
‫القبلية‪ ،‬فلما تولى رئاسة القضاء –والسكرتير القضائي‪ -‬أصدر تعديالا لمذكرته في سنة ‪1950‬م‬
‫لتتناسب مع أصول التقاضي التي تعين على درك حقائق الوقائع بأفضل السبل‪ ،‬ثم أصدر في‬
‫‪15/6/1952‬م منشور المحاكم الجنائية رقم (‪ ،)18‬وقد عني فيه بالتوجيه بمراعاة األعراف القبلية‬
‫المتعلقة بالدية مع عدم اإلخالل بأحكام قانون اإلجراءات الجنائية‪ ،‬وذلك إلدراكه لما يتمخض عن‬
‫ذلك المنهج من تطييب للخواطر‪.‬‬
‫لقد تواترت تطبيقات المحاكم السودانية للقواعد العرفية التصالحية بلوغا ا إلى مفهوم العدالة المجتمعية‪ ،‬ففي‬
‫النزاع القبلي الذي نشب بوالية كردفان (قبيلة أوالد هيبان من المسيرية الزرق‪ ،‬وقبيلة المتانين من المسيرية‬
‫الفاليته)‪ ،‬وكان سببه تحرشات بين الرعاة من القبيلتين حول المرعى وموارد المياه‪ ،‬وأسفرت المعركة عن‬
‫سبعة قتلى‪ ،‬ثالثة من قبيلة المتانين وأربعة من قبيلة أوالد هيبان‪ ،‬وت ام تقدير الخسائر –على ضوء إقرارات‬
‫متبادلة بين الطرفين بمبلغ ‪ 15.643.200‬جنيهاا‪ ،‬فتحت بها دعوى مدنية برقم‪ /‬ق م‪110/2001/‬م‪ ،‬وكلف‬
‫قاضي المحكمة العامة بالفولة‪ -‬والية غرب كردفان‪-‬بإرساء دعائم الصلح وصياغة مقرراته‪ ،‬حيث أنجز مهمته‬
‫ابتداء من ‪11/8/2001‬م حتى ‪14/8/2001‬م وقد تم تنفيذ الصلح تحت رقم‬
‫خالل أربعة أيام فقط‪،‬‬
‫ا‬
‫‪44/2001‬م وأقفلت ملفات التعويض وكافة مقررات الصلح بتمام التنفيذ في ‪21/10/2001‬م فعادت الحياة‬
‫بين القبيلتين إلى صفائها‪.-‬‬
‫وفي النزاع القبلي بين قبيلة الرزيقات بجنوب دارفور وقبيلة المسيرية بجنوب كردفان‪ ،‬قام بعض أبناء‬
‫الرزيقات بنصب كمين ألبناء قبيلة المسيرية‪ ،‬فأسفر االشتباك عن خمسين قتيالا وثمانية وعشرين جريحا ا من‬
‫قبيلة الرزيقات‪ ،‬وعن أحد وعشرين قتيالا وستة عشر جريحا ا من قبيلة المسيرية‪ -‬فتحت الدعوى الجنائية برقم‪/‬‬
‫ع إ‪30/2007/‬م في ‪26/5/2007‬م‪ ،‬وبحضور عدد من أمراء قبيلة المسيرية وعمد قبيلة الرزيقات أجري‬
‫الصلح أمام قاضي المحكمة الجنائية العامة باألبيض‪ ،‬وكان من مقرراته عفو أفراد القبيلتين عن بعضهما عفواا‬
‫خالصاا‪ ،‬والتزامهم بعدم الثأر وبترسيم الحدود بين القبيلتين وتسوية الديات والخسائر وفقا ا لألعراف السائدة بما‬
‫يرفع الغبن ويجبر الضرر ويطيب الخواطر‪ ،‬وقدرت تلك الخسائر وتعويضاتها‪ ،‬وسلمت مقررات الصلح إلى‬
‫رئيس الجهاز القضائي باألبيض الذي كلاف قاضيا ا بتنفيذها على ضوء أحكام قانوني اإلجراءات المدنية‬
‫والجنائية‪.-‬‬
‫وفي الدعوى الجنائية المرفوعة أمام محكمة الجنايات العامة باألبيض ‪ -‬شمال كردفان‪ -‬تحت رقم ‪/525/‬غ‬
‫إ‪2007/‬م‪ ،‬تلخصت الوقائع الثابتة في قيام مجهول بسرقة خمسة رءوس من الضأن من قبيلة المجانين‪ ،‬فتتبع‬
‫"الفزع"‪ -‬أي أفراد من هذه القبيلة أثر السارق والبهائم‪ ،‬إلسترداد المال المسروق‪ ،‬وخالل اقتفائهم لألثر هجم‬
‫عليهم بعض أفراد قبيلة دار حامد‪ ،‬فأسفرت المعركة بين الفريقين عن ستة وأربعين قتيالا من أبناء القبيلتين‪،‬‬
‫بواقع ثالثة وعشرين قتيالا من كل قبيلة‪ ،‬كما أسفرت المعركة عن تسعة وعشرين مصابا ا من أبناء قبيلة دار‬
‫حامد‪ ،‬وعن أحد وثالثين مصابا ا من أبناء قبيلة المجانين‪.‬‬
‫سلكت المحكمة في إجراءات الدعوى على بصيرة من األعراف المحلية‪ ،‬دونما إغفال ألصول التقاضي‪ ،‬وقد‬
‫أعانه على التسوية بعض أهل الحكمة من أعيان القبيلتين وآخرين من النافذة كلمتهم‪ ،‬فكللت الجهود بإخماد نار‬
‫الفتنة‪ ،‬وبنزع ما في الصدور من الغل‪ ،‬وت ام حصر الخسائر البشرية والمادية‪ ،‬مع االستعانة بالخبرة الطبية في‬
‫ودونت‬
‫تقدير نسب العجز واألضرار البدنية بلوغا ا إلى تقدير "حكومة العدل"‪ -‬تعويضات اإلصابات البدنية‪ .-‬ا‬
‫مقررات الصلح بتبيان ما لكل قبيلة منهما من الحقوق وما عليها من الواجبات وااللتزامات‪ ،‬وبتبيان كيفيات‬
‫إنفاذ مقررات الصلح‪ .‬ولم يستغرق إنجاز هذا العمل سوى أقل من عام بقليل‪ ،‬وهي مدة قصيرة بالمقارنة لما‬
‫تستغرقها مثل هذه الدعاوى وفقا ا إلجراءات العدالة الجنائية التقليدية‪ ،‬القابلة أحكامها للطعون بمختلف‬
‫مراحلها‪ ،‬فضالا عما في هذا النوع من العدالة المجتمعية من تطييب الخواطر‪ ،‬بما يبعث الطمأنينة في المجتمع‪-‬‬
‫‪.‬‬
‫خامسا ا‪ :‬الدرء والمسامحة‪:‬‬
‫اإلطار الفلسفي الذي شرعت في دائرته أصول التقاضي في دعاوى الحدود الشرعية‪ ،‬هو‪" :‬الدرء‬
‫والمسامحة"‪ ،‬والمقصود بالدرء هو دفع الحدّ بوساطة المتهم أو من تلقاء نفس القاضي‪ ،‬ما كان ذلك‬
‫ممكناا‪ ،‬لحديث النبي صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إذا اشتبه عليك الحدّ فأدرأ ما استطعت" ومبدأ (درء‬
‫الحدود بالشبهات) يع ٌد ركيزة أساس في أصول المحاكمات الجنائية التي يعتمدها القضاء السوداني‪،‬‬
‫وصالا لموروثه الممتد منذ عصر النبوة إلى عصرنا الحاضر‪ ،‬وحيث تبلور ذلك المبدأ في النظم‬
‫المعاصرة إلى قاعدة‪ " :‬تفسير الشك لصالح المتهم"‪.‬‬
‫وأما المسامحة فتتبدى في هذا المجال من المنهج المخول شرعا ا للقاضي في تلقين الحجة للمتهم‪،‬‬
‫الحدي‪ ،‬استحب للقاضي‬
‫تعريضا ا ابتداءاا ‪ ،‬ثم تصريحاا‪ ،‬استحبابا ا للستر‪ ،‬فإن اعترف المتهم بالجرم‬
‫ّ‬
‫تلقينه الرجوع عن اعترافه‪ ،‬ويكره التسارع إلى تدوين اإلقرار القضائي في هذا المجال‪ ،‬بل يستأنى به‬
‫لجلسة أخرى‪ ،‬فإن تكرر وخال من الشبهات قضى بمقتضاه وإالا فال‪ ،‬وهذا هو المقرر فقهاا‪ ،‬وقانونا ا‬
‫وفقا ا ألحكام المادة (‪ )144/4‬من قانون اإلجراءات الجنائية لسنة ‪1991‬م‪.‬‬
‫ويتمخض عن إطار "الدرء والمسامحة" في أقضية الحدود الشرعية‪ ،‬تضييق دائرة التجريم بتك‬
‫الحدود‪ ،‬يتبدى ذلك من منهج اإلكثار في تفصيالت عناصر أركان الجريمة الحدّ ية‪ ،‬ثم اإلكثار في‬
‫تفصيالت إثبات وقائعها‪ ،‬واإلكثار من الشبهات الدارئة للحدود ومن مسقطاتها‪ .‬والشيء كلما كثرت‬
‫قيوده قل ا وجوده‪.‬‬
‫ا‬
‫واستقراء الواقع التطبيقي يؤكد أن تلك القيود المتكاثرة تتيح للقاضي س ا‬
‫واسعة في‬
‫لطة‬
‫االستقصاء القضائي بمنهج الحياد اإليجابي‪ ،‬يعينه على ذلك عنصران أولهما‪ :‬قلة‬
‫النصوص اآلمرة التي تقيد حرية القاضي في االستقصاء –في هذا المجال‪،-‬‬
‫وثانيهما‪ :‬ما هو مخول للقاضي من حرية كاملة في التحري واالستياق عن مدى توفر‬
‫تلك الكثرة الكاثرة من العناصر والشرائط‪ .‬ومدى انتفاء الشبهات الدارئه والمسقطات‬
‫كافة‪.-‬‬
‫سادسا ا‪ :‬التسامح الديني‪:‬‬
‫يعدّ مثاليا ا أنموذج التطبيقات القضائية التي يتميز بها القضاء السوداني في مجال التسامح الديني‪ ،‬فال‬
‫مؤاخذة لألقليات من أهل الملل والثقافات األخرى‪ ،‬بالتشريعات الوطنية ذات الصبغة الدينية‪ .‬ولئن‬
‫كانت المادة (‪ )5/3‬من القانون الجنائي لسنة ‪1991‬م قد استثنت إقليم جنوب السودان من أحكام‬
‫المواد ذات الصبغة الدينية ‪ ،‬فإن تشريعنا الدستوري قد ذهب إلى أبعد من ذلك‪ ،‬حيث قضت المادة‬
‫(‪ )156‬من دستور السودان االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪ ،‬بإفراد العاصمة القومية بأوضاع خاصة‪،‬‬
‫تحقيقا ا للتسامح الديني؛ إذ نصت المادة المذكورة على أنه‪ " :‬دون المساس بصالحية أي مؤسسة‬
‫قومية في إصدار القوانين‪ ،‬يسترشد القضاة وأجهزة تنفيذ القانون عند تطبيق العدالة وتنفيذ أحكام‬
‫القوانين السارية في العاصمة القومية باآلتي‪-:‬‬
‫يكون التسامح أساسا ا للتعايش بين السودانيين على اختالف ثقافاتهم وأديانهم وأعرافهم‪.‬‬
‫يعتبر السلوك الناشئ عن الممارسات الثقافية واألعراف الذي ال يسبب إخالالا بالنظام العام واحتقاراا‬
‫ألعراف اآلخرين وال تكون فيه مخالفة للقانون‪ ،‬ممارسة للحريات الشخصية في نظر القانون‪.-‬‬
‫(ج ) تراعي المحاكم عند ممارسة سلطاتها التقديرية في توقيع العقوبات على غير المسلمين‪ ،‬المبدأ‬
‫الراسخ في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬أن غير المسلمين من السكان ال يخضعون للعقوبات الحدية‬
‫المفروضة‪ ،‬وتطبق عليهم عقوبات تعزيرية وفقا ا للقانون‪.‬‬
‫وضمانا ا إلعمال مبدأ التسامح الديني وفقا ا لما هو مقرر بالمادة اآلنفة الذكر‪ ،‬فقد‬
‫شرعت المادة (‪ )158‬من ذات الدستور مقررة إنشاء آليات لضمان إنفاذ تلك‬
‫المبادئ؛ إذ جاءت الفقرة (أ) من المادة اآلنفة الذكر‪ ،‬بتخويل رئيس القضاء بإصدار‬
‫منشورات قضائية إلرشاد المحاكم إلى كيفية مراعاة المبادئ المذكورة في المادة‬
‫(‪ -)156‬اآلنفة الذكر‪ ،‬كما جاءت الفقرة (ب) منها بتخويل رئيس القضاء في إنشاء‬
‫محاكم متخصصة إلجراء المحاكمات وفقا ا لتلك المبادئ‪ .-‬وبحق فقد قام القضاء‬
‫السوداني بتنزيل تلك المبادئ على أرض الواقع‪ ،‬فأصدرت المحكمة العليا –والمحاكم‬
‫األدنى‪ -‬أحكامها على ضوء تلك المقررات الدستورية بأمثل الوجوه‪ ،‬ونشير هنا‬
‫للمثال‪-‬ال للحصر‪ -‬ما قضت به المحكمة العليا السودانية في قضية‪ " :‬حكومة السودان‬
‫‪/‬ضد‪ /‬م‪.‬ر‪.‬م" إذ قالت " بالرغم من أن نص المادة (‪ )5/3‬من القانون الجنائي لسنة‬
‫‪1991‬م يستثنى الواليات الجنوبية فقط من تطبيق الجرائم الحدّية‪ ،‬إالا أن المادة‬
‫(‪/156‬د) من الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪ ،‬منعت توقيع العقوبة الحدية على غير‬
‫المسلمين من السكان في العاصمة القومية‪ ،‬والدستور يعلو على القانون ويتعين‬
‫اتباعه"‪ ،-‬وبنا اء عليه قضت المحكمة العليا بإلغاء العقوبة الحدية‪ ،‬واستبدلت بها‬
‫عقوبة تعزيرية مع مراعاة مبدأ الرأفة المنصوص عليها دستوريا ا وفقا ا للمادة‬
‫(‪/156‬هـ) من الدستور االنتقالي لسنة ‪2005‬م‪.-‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫غيض من‬
‫فهذه (أضوا ٌء) خاطفة أبانت بعض خصائص القضاء السوداني‪ ،‬وهي‬
‫ٌ‬
‫فيض‪ ،‬و إحصاء تلك الخصائص مما تضيق عنه األسفار‪ ،‬وسوف تظل إشراقات‬
‫علويا ا يتلوه األبرار‪.-‬‬
‫القضاء السوداني نوراا وضا اء من فوق األقمار‪ ،‬وسفراا ّ‬
‫والحمد هلل على نعمائه‪.-‬‬
‫رئيسًالقضاءً‪ -‬رئيسًالمحكمةًالعليا‬
‫المحكمةًالعليا‬
‫محاكمًاإلستئناف‬
‫المحاكمًالجزئيةً‬
‫محاكمًالمدنًواألرياف‬