الاخلاق في الاسلام
Download
Report
Transcript الاخلاق في الاسلام
األخالق في اإلسالم
األخالق :هي المبادىء والقواعد المنظمة للسلوك
اإلنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة اإلنسان
على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم
على أكمل وجه.
ثم إن لهذا النظام االخالقي االسالمي طابعين ممزين :
طابع النظام االخالقي االسالمي:
.1طابع إلهي :من حيث أنه مراد هللا إذأنه يجب أن يتبع اإلنسان في هذه الحياة
نظاما ً محدداً ولذلك جاء الوحي بصورة هذا النظام وطلب من اإلنسان أن
يشترك في تطبيقه بقلبه وروحه وبإرادته الخيرة الخالصة لوجه هللا مع سلوكه
الظاهري المادي .
طابع إنساني :من حيث أن هذا النظام عام في بعض نواحيه لم يحدد تحديداً
.2
دقيقاً ،وإنما فيه بعض المبادىء العامة .مثل التنظيم السياسي في اإلسالم فإنه
غير محدد من جميع النواحي ،ولكن هناك معالم خاصة لهذا النظام .وعلى
الحاكم أن ينظم الدولة ويحكم على أساس هذه المعالم .
إذن فلإلنسان هنا مجهود ودخل في تحديد هذا النظام من الناحية العملية.
بعد هذا تبقى نقطة أخرى :في المفهوم المحدد سابقا ً :وهي أن األخالق نظام من العمل
من أجل الحياة الخيرة.
أي طراز السلوك وطريقة التعامل مع الغير ،أيا ً كان هذا الغير إنسانا ً كان أم حيوانا ً .من
حيث ما ينبغي أن يكون عليه هذا السلوك كسلوك إنساني تجاه الغير .
وذلك بنا ًء على مكانته في الكون ومسؤولياته التي يجب أن ينهض بها وبنا ًء على ما وضع
له خالقه من أهداف في هذه الحياة .
تكامل الجانب النظري مع الجانب العملي :
هذا جانب من مفهوم االخالق في االسالم وهناك جانب آخر وهو :تكامل الجانب النظري
مع الجانب العملي منه.
االخالق جوهر االسالم :
ثم ان هناك شيئا آخر مهم ال بد من مالحظته وهو أن النظام األخالقي ليس جزءاً من
نظام اإلسالم العام ،بل إن األخالق هي جوهر اإلسالم وروحه السارية في جميع
جوانبه ،فالنظام اإلسالمي عموما ً مبني على فلسفته الخلقية أساسا ً .
ومصداق ذلك قول الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :إنما بعثت ألتمم صالح األخالق)
( . )1فقد قصرالرسول اهداف رسالته في هذا الحديث على األخالق ،وأنه جاء
ليتم البناء األخالقي الذي بدأت الرساالت السابقة به .كما قال في حديث آخر:
(مثلي ومثل األنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إال موضع لبنة فجعل
الناس يدخلونها ويتعجبون منها ،ويقولون :لوال موضع اللبنة ،فأنا موضع
اللبنة جئت فختمت األنبياء ) (.)2
(1
(2
سلسلة االحاديث الصحيحة المجلد االول ص 112حديث رفم / 45حديث صحيح
صحيح مسلم المسند الصحيح 2287
إذن فهدف الرساالت اإللهية كلها هدف أخالقي أيضا ً .
ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم( :الدين حسن الخلق) ( ، )1وكانت عائشة تفهم هذا
المعنى من الدين االسالمي فقالت عندما سئلت عن أخالق النبي ( :كان خلقه
القرآن) ( )2ويؤيد ذلك قول الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :إن أحسن الناس خلقا ً
أحسنهم دينا ً) ( )3وكذلك قوله( :اإلسالم حسن الخلق) ( . )4وقوله صلى هللا عليه
وسلم ( ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن) ( )5وروي عنه قوله صلى
هللا عليه وسلم ( حسن الخلق خلق هللا األعظم) ( )6وجاء في تفسير القرطبي
وابن كثير في قوله تعالى ( :وإنك لعلى خلق عظيم) ( )7أي على دين من
األديان ،وكذلك فسرها ابن عباس ومجاهد .
وقد سمى البعض األخالق بأنها علم الواجب :أي أنها علم يعرف اإلنسان الواجبات
كما يجب أن يفعلها .ومن ثم كان إطالق األخالق على الدين في اللغة وفي
االصطالح أحيانا ً.
وليس هذا الفهم مفروضا ً على اإلسالم أو غريبا ً عنه ،بل روح اإلسالم روح
أخالقية ،وهدف اإلسالم في الحياة تحقيق غاية أخالقية .
هذه روح نجدها في كل جانب من جوانب اإلسالم .
العقيدة أخالق :
ففي جانب العقيدة :نجد قوله صلى هللا عليه وسلم ( :أكمل المؤمنين إيمانا ً أحسنهم
أخالقا ً) ( )8وقال ( :ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه) ( )9وقال:
( من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فال يؤذ جاره ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر
فليقل خيراً أو ليصمت) (. )10
ثم ان اإلسالم اعتبر االيمان برا فقال تعالى ً ( :ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل
المشرق والمغرب ولكن البر من آمن باهلل واليوم اآلخر والمالئكة والكتاب
والنبيين) (. )11
ومعلوم أن البر صفة للعمل األخالقي أو هو جامع ألعمال الخير كما يقول بعض
العلماء
وقد بين صلى هللا وسلم أن من لم يتخلق باألخالق الحسنة ال يقبل هللا منه اإليمان
والدين فقال ( :ال ايمان لمن ال أمانة له وال دين لمن ال عهد له) (. )12
العبادة أخالق :
وروح العبادة في اإلسالم روح أخالقية في جوهرها النها اداء الواجبات االلهية.
ولهذا نجد اإلتجاه األخالقي سائد في جميع العبادات ،ففي الصال ة قال تعالى :
(إن الصالة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (. )13
وبين صلى هللا عليه وسلم أن من لم يتخلق ال يقبل هللا منه الصوم فقال( :من لم يدع
قول الزور والعمل به فليس هلل حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (. )14
وقال تعالى في الحج( :الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فال رفث وال
فسوق وال جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه هللا وتزودوا فإن خير الزاد
التقوى واتقون يا أولي األلباب ) (. )15
وقال في األضحية ( :لن ينال هللا لحومها وال دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) ()1
وقال في الزكاة ( :خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (.)2
وقد ذكر لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ( :أن فالنة تكثر من صالتها وصدقتها
وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها) ،قال( :هي في النار) (.)3
هنا نجد اإلسالم يختلف في نظريته األخالقية بالنسبة الى هللا عزوجل عن بعض
الفالسفة مثل (كانط) الذي يرى عدم وجود هذا النوع من األخالقية .ألن األخالق
في نظره واجبة والواجب يقتضي سبق حق وليس لإلنسان حق سابق على هللا
)4(.
أما اإلسالم فقد قرر أن للعباد حقا على هللا كتبه هللا على نفسه إذا عبدوه ولم يشركوا
به شيئا ً أن يدخلهم الجنة .فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :فإن حق هللا على
العباد أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا ً وحق العباد على هللا عزوجل أال يعذب من ال
يشرك باهلل شيئا ً ) (. )5
وقال تعالى ( :إن هللا اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في
سبيل هللا فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا ً في التوراة واإلنجيل والقرآن ومن أوفى
بعهده من هللا فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (. )6
حقوق الحيوان :
بل أكثر من ذلك فقد قرر اإلسالم حقوقا ً للحيوان على اإلنسان في مقابل تسخيرها
له .قال تعالى ( :واألنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون ،ولكم فيها
جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم الى بلد لم تكونوا بالغيه إال
بشق األنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) (. )7
هذا الى أن اإلسالم قرر الحقوق الطبيعية للحيوان وعلى اإلنسان أن يحترم هذه
الحقوق .وبين الرسول صلى هللا عليه وسلم أن ( :امرأة دخلت النار في هرة
حبستها ال هي أطعمتها وال سقتها وال هي تركتها تأكل من خشاش األرض) ()8
وقال عبد هللا( :كنا مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في سفر فانطلقت لحاجتي
فرأيت حمرة (عصفورة) معها فرخان فأخذت فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت
تعرش (تغرد حزنا ً) فجاء النبي صلى هللا عليه وسلم فقال ( :من فجع هذه بولدها
ردوا ولديها اليها)(.)9
ثم إن اإلسالم دين الرحمة جاء رحمة للعالمين ،قال تعالى ( :وما أرسلناك إال
رحمة للعالمين) (.)10
وعلى ذلك فال بد أن يقرر لكل حي حقوقا ً طبيعية وأن يوجب على اإلنسان احترام
هذه الحقوق .
ولهذا جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى هللا عليه وسلم في الرفق بالحيوان،
منها حديث عائشة عندما ركبت بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردد فقال لها
صلى هللا عليه وسلم ( :عليك بالرفق فإن الرفق ال يكون في شيء إال زانه وال
ينزع من شيء إال شانه) (.)11
وأثار القرآن هذا التعاطف والتراحم بين اإلنسان والكائنات الحية األخرى في قوله( :
وما من دابة في األرض وال طائر يطير بجناحيه إال أمم أمثالكم) )1( .
االخالق في المعاملة :
أما روح األخالق في المعاملة العامة بين الناس في جوانب الشريعة اإلسالمية فنجدها
بصورة اوضح ومن االدلة الواضحة على ذلك ما نجد من اعتراف علماء الشريعة
انفسهم بهذا المفهوم ،ذلك انهم في صدد بيان مقاصد الشريعة قالوا ان مقاصد
الشريعة ثالثة وهي :تحقيق الضروريات والحاجيات والتحسينات لالنسان في
هذه الحياة .والضروريات في نظرهم ( هي االمور التي ال بد منها لقيام مصالح
الدين والدنيا بحيث اذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا عاى استقامة بل على فساد
وبهارج وفوت حياة وفي االخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين
ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل()2
.
أما الحاجيات :فهي األمور التي يحتاج اليها اإلنسان في هذه الحياة لرفع الضيق
والحرج الذي يكون نتيجة عدم تحقيق بعض المطالب .مثل تحقيق كل حاجيات
اإلنسان بشيء من السعة من المأكل والمشرب والمسكن .وإزالة ما يؤدي الى
الضيق في بعض التكاليف كالتخفيف في الرخص في حاالت اإلضطرار.
وأما التحسينات :فهي إتخاذ أحسن وأجمل األساليب في حالة معاشرة الناس
ومراعاة شعورهم وإحساساتهم األدبية(.)3
فنجد أن مقاصد الشريعة مقاصد أخالقية .
ويؤيد هذا نصوص كثيرة منها ( :إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم ال يموت فيها
وال يحيا ومن يات ربه مؤمنا ً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى
جنات عدن تجري من تحتها األنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى( )4ومنه
قول الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
والمهاجر من هاجر ما حرم هللا) ( . )5وقال ( من غشنا فليس منا ومن حمل
السالح علينا فليس منا) (. )6
وهكذا نجد أن اإلسالم قد ربط بين جوانب اإلسالم برباط أخالقي لتحقيق غاية
أخالقية .
وأصدق دليل على ذلك قوله تعالى ( :ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق
والمغرب ولكن البر من آمن باهلل واليوم اآلخر والمالئكة والنبيين وآتى المال على
حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب وأقام الصالة وآتى
الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (.)7
وأصحاب الخلق أولئك الذين يؤدون تلك الواجبات السابقة .
وقد فهم هذه الروح االخالقية في اإلسالم أكثم بن صيفي أحد حكماء العرب الذي قال
عندما دعا قومه الى اإلسالم :إن الذي يدعو اليه محمد لو لم يكن دينا ً لكان في
أخالق الناس حسنا ً) (. )8
وبعد هذا كله ال نبالغ إذا قلنا أن األخالق في اإلسالم بالمفهوم السابق هي روح
الرسالة اإلسالمية وإن النظام اإلسالمي التشريعي يعد صورة مجسمة لهذا الروح
وبعد هذه التحليالت والتحديدات لمفهوم األخالق في نظر
اإلسالم يمكننا أن نجمل هذا المفهوم بأن ( األخالق هي أنماط
سلوك اإلنسان في الحياة) سواء كان هذا السلوك ظاهراً أو
باطنا ً يصدر من اإلنسان بإرادة ويهدف الى تحقيق غاية .
غاية األخالق في اإلسالم
نظام اإلسالم نظام أخالقي ،فما الهدف الذي كان يرمي اليه اإلسالم من وضع هذا
النظام ؟
عندما ندرس اإلسالم من جميع النواحي نجد تصريحات حينا وتلميحات حينا آخر أن
هذا النظام وضع من أجل مصلحة اإلنسان وتحقيق السعادة له في الدنيا واآلخرة .
ونجد أيضا ً أن حقيقة السعادة هي الشعور واإلحساس الدائم بخيرية الذات وخيرية
الحياة وخيرية المصير .
خيرية الذات :ال بد من صحة العقيدة وصحة العقل وصحة النفس .
والدليل على صحة العقيدة :أن تبرر نفسها بنفسها بالبراهين العقلية الواضحة .
والدليل على صحة العقل :التمييز بين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة وبين
النافع والضار وهذا يكون بالمعرفة والعلم والحكمة .
والدليل على صحة النفس :الشعور باألمن والطمأنينة والصحة .
ولكي يتحقق هذا ال بد من توفر األمن الخارجي وهو متوقف على النظام العام للحياة
.
وال بد من توفر األمن الداخلي ايضا ويتحقق بالتوفيق بين العقيدة وبين السلوك في
الحياة ثم بينهما وبين األهداف التي يريد اإلنسان تحقيقها في الحياة .
فال بد أن يكون بين هذه األمور انسجام وتناسق ليشعر باألمن ،قال هللا تعالى ( :الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم األمن وهم مهتدون) (. )1
ولكي يتحقق العنصر الثاني ( خيرية الحياة) ال بد من الشروط التالية :
الشعور بخيرية الذات .
السالمة من األمراض .
تحقيق مطالب اإلنسان األولية وأن يكون ذلك بالحكمة
أما العنصر الثالث (خيرية المصير) فال يتحقق إال بتحقيق العنصرين السابقين،
فاإلنسان ال يشعر بخيرية مصيره إال إذا رسخت الغقيدة الصحبحة في قلبه ،واال
اذا عمل بمقتضى هذه العقيدة ،واال اذا كانت األهداف التي حددها لنفسه في حياته
متالئمة مع هذه العقيدة من جهة ومع إمكانيات طبيعته البشرية من جهة أخرى
وتحقيقا ً لذلك فقد جاء اإلسالم بعقيدة سليمة برهن عليها ببراهين عقلية واضحة .ثم
جاء بنظام عام للحياة اإلنسانية حدد فيه سلوك اإلنسان .وقد راعى في هذا وذاك
طبيعة هذا الوجود بوجه عام وطبيعة اإلنسان بوجه خاص .
كما حدد مركزه ومصيره واألهداف التي ينبغي أن يسعى لتحقيقها ،وربط في كل ذلك
بين العقيدة وواقع اإلنسان وسلوكه في هذه الحياة ،ومصيره فيما بعد هذه الحياة.
وكل ذلك بحكمة تخضع لها العقول المدركة لحقيقتها خضوع اإلكبار واألجالل .
اثر العقيدة على الفرد:
وليس هذا مجرد دعوى بدون دليل أو فكرة مفروضة على اإلسالم ،بل هي مستوحاة
من روح اإلسالم وفلسفته وفي اإلسالم أسانيد لها .
ففيما يتعلق بأثر العقيدة الراسخة في سعادة الفرد يقول صلى هللا عليه وسلم ( :إن هللا
عزوجل بحكمته وجالله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الغم
والحزن في الشك والسخط) (.)1
وللعقيدة أثر في اطمئنان القلب قال ابراهيم عليه السالم ( :ليطمئن قلبي) )2( .
ولها أثر ثالث وهو حالوة اإليمان الناشيء عن محبة ،ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم:
ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان :أن يكون هللا ورسوله أحب اليه مما سواهما
وأن يحب المرء ال يحبه إال هلل وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في
النار) (. )3
عناية االسالم بالعقل :
ولصحة العقل وسعادته اتخذ اإلسالم طريقين:
ب -طريق التنيمة
أ -طريق الوقاية
ففي الطريق األول حرم على االنسان تناول كل ما يخدر العقل ويضره
وفي الطريق الثاني دعا الى تحقيق مطالبه من النظر والمعرفة والحكمة.
ولم يكتف بمجرد الدعوة الى ذلك فحسب ،بل زوده بمعرفة كثير من أسرار الكون
والحياة وعلم الغيب علم ما وراء الكون وهو العلم الذي ما كان يستطيع العقل
اإلنساني أن يصل اليه وحده .
وصدق هللا العظيم ( :كما أرسلنا فيكم رسوالً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم
الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) (. )4
تحقيق االمن الداخي لالنسان :
وفيما يتعلق باألمن الداخلي دعا اإلسالم الى بعض األمور التي تحقق هذا األمن :
منها ذكر هللا دائما ً .ألن القلوب تطمئن بذكر هللا ( :أال بذكر هللا تطمئن القلوب ) ()5
.
ومنها دعوته أن يكون هللا ملجأ اإلنسان في السراء والضراء والمستعان الذي يستطيع
معاونة اإلنسان ونصره وتأييده وهو يكلؤه و يحفظه إذا سلك طريقه وكسب رضاه
ومحبته.
قال صلى هللا عليه وسلم في حديث قدسي إن هللا عزوجل قال ( :من عادى لي وليا ً
فقد آذنته بالحرب وما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما إفترضته عليه وما
زال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سالني
ألعطينه ولئن استعاذني ألعيذنه وما ترددت عن شيء
أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا اكره مساءته) ()1
ونتيجة اإلطمئنان الى رعاية هللا ونصره فال يصيب هذه النفوس خوف وال فزع عند
المصائب والشدائد (أال إن أولياء هللا ال خوف عليهم وال هم يحزنون) (. )2
تحقيق االسالم لالمن الخارجي:
واما تحقيق األمن الخارجي :فإن هذا النظام االخالقي اوجب إحترام الفرد في
حريته وممارسة حقوقه الطبيعية .وحرم القتل والغصب والسرقة واإلعتداء على
األعراض .والى جانب ذلك دعا الى التبشير بالخير ونهى عن التشاؤم فقال صلى
هللا عليه وسلم( :بشروا وال تنفروا) ( )3وقال ( :ال عدوى وال طيرة ويعجبني
الفأل الصالح الكلمة الطيبة) ( .)4وقال( :سوء الخلق شؤم) (. )5كما أمر
بالتعاون والتراحم وإحترام مشاعر الناس وإحساساتهم األدبية.
ولم يكتف بوضع النظام بل أقام حكومة لتنفيذ هذا النظام وجعل الحكام مسؤولين عن
ذلك .
اهتمام االسالم بصحة االنسان :
ولتحقيق الصحة الكاملة أمر اإلسالم بثالثة أمور :
األمر األول :الوقاية من األمراض .
وذلك باالمر بمراعاة النظافة والطهارة في كل شيء ألن أغلب األمراض تأتي نتيجة
عدم النظافة .ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :إن هللا نظيف يحب النظافة فنظفوا
أفنيتكم) (. )6
وقال (الطهور شطر اإليمان) (. )7
وأمر بتغطية األطعمة واآلنية من التلوث بالجراثيم فقال ( :أوكوا قرابكم) ( ، )8وفي
رواية( :خمروا الطعام والشراب ) ( . )9كما أمر باإلبتعاد عن األمراض المعدية
واألماكن الموبوءة فقال ( :إذا سمعتم بالطاعون بأرض فال تدخلوها وإذا وقع
بأرض وأنتم بها فال تخرجوا منها ) (. )10
وقال( :فر من المجدوم فرارك من األسد) ( . )11وقال ( ال يورد ممرض على
مصح ) (. )12
هنا نرى الرسول صلى هللا عليه وسلم يأمر بعملية الحصار للمرض المعدي كما تفعل
الدول اليوم.
أحاديث العدوى:
غير انه ينبغي اإلشارة الى النصوص التي تفيد انكار الرسول صلى هللا عليه وسلم
العدوى مثل ( :ال عدوى وال طيرة وال هامة) (.)1
ومناقشته صلى هللا عليه وسلم األعرابي في مسألة تعدي الجذام من بعير الى آخر .
وأكله صلى هللا عليه وسلم مع المجذوم ( .)2وقد وقع خالف طويل بين العلماء إال
أن الرأي الراجح وهللا أعلم:
إن حديث ال عدوى عام واألحاديث التي تفيد العدوى خاصة .وهذا صحيح ألن ليس
كل األمراض معدية .كما أن أكل الرسول صلى هللا عليه وسلم مع المجذوم
ومناقشته األعرابي يوحيان بأنه صلى هللا عليه وسلم راد ان يثبت أن التعدي ال
يحصل إال بإرادة هللا فهو ال يريد إلغاء إرادة هللا مع وجود األسباب .لكننا مع ذلك
أمرنا باتخاذ األسباب إتباعا ً لقوله تعالى ( :إنا مكنا له في األرض وآتيناه من كل
شيء سببا ً فأتبع سببا ) (. )3
األمر الثاني :تحقيق المطالب األساسية في الطبيعة اإلنسانية بحكمة وإعتدال :
وهذه الحاجات تنقسم الى قسمين -1 :الحاجات الروحية -2الحاجات الحسية.
وأهمية األولى ال تقل عن الثانية .ألن الروح موجودة أودعها هللا في اإلنسان لمعرفته
ولإلتصال به .
ولتدفع اإلنسان الى تحمل مسؤولياته اإلنسانية في الحياة .
وهي وإن كانت غامضة في كنهها وجوهرها فهي ظاهرة من حيث آثارها في السلوك
وفاعليتها في األبدان .وهي متأصلة في اإلنسان بالفطرة .
وإذا كان األمر كذلك فال بد أن تكون لها مطالب تنشط بتحقيقها وتذبل وتضيق
بالحرمان منها .والحياة الروحية كما قررها اإلسالم هي أداء العبادات من صالة
وصوم وحج وزكاة .وتذكر هللا بأنه خالقه ورازقه ويستمد منه العون .وأن يتذكر
بأن الحياة مؤقته ستتحول في النهاية – ان احسن االنسان عمله -الى حياة أبدية
ملؤها السعادة.ولهذه الحياة الروحية دور كبير في سعادة االنسان
فاإلنسان عندما يحيا هذه الحياة يشعر باإلطمئنان والراحة في أعماق قلبه .ألنه يحس
في فرارة نفسه بأن هللا راض عنه وأنه يحفظه .وألنه يرى أن الموت ال يقطع
حياته بل ينقله من حياة مؤقتة الى حياة دائمة .وأن األعمال إن لم يجن ثمارها هنا
فسيجدها هناك .
ولهذا كله فإن هؤالء الذين يحيون هذه الحياة تبتسم سريرتهم بالرغم من
الشدائد التي يعانون منها والصعوبات التي يخوضونها ،اما الذين
اهملوا الروح ولم يعطوها حقها من الحياة فهم في ضيق وحرج وال
سيما عند االزمات والمصائب يزعجهم خوف الموت ،ويقلقهم ضياع
الحقوق ،وعدم استيفائهم ثمار اعمالهم – ويؤدي بهم هذا الضيق
والحرج احيانا – الى الذبحة الصدرية او االنتحار.
ولقد ادرك هذه الحقيقةالعالم الفرنسي الدكتور الكسيس كارل فهو يقول ( :ومن
الغريب أن اإلنسان الحديث قد استبعد من الحقيقة الواقعية كل عامل نفسي (
روحي ) وبنى لنفسه وسطا ً ماديا ً بحتاً ،غير أن هذا العالم ال يالئمه قط بل نراه
يصاب فيه باإلنهيار ....فمن الحكمة إذن أن نجعل لعالم الروح نفس الموضوعية
التي لعالم المادة) (. )1
وهكذا نرى فداحة الخطأ الذي يرتكبه هؤالء الذين يضعون نظاما ً لإلنسان ويهملون
فيه الجانب الروحي بقصد أو بغير قصد.
وأما الحاجات الحسية االساسية في اإلنسان :كالمأكل والملبس والمسكن والجنس
فهي ضرورية لدوام الحياة أوالً وللشعور بالسعادة ثانيا ً .لذلك فقد أباح اإلسالم كل
ما يحتاج اليه اإلنسان ،بالضرورة وحرم كل شيء يضر بالصحة .وسمى األول
الطيب والثاني بالخبيث( .ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) )2( .وأباح
النكاح للحاجة البيولوجية وللمتعة النفسية( ،ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم
أزواجا ً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (.)3وخلق أشياء لنصنع منها
لباسا ً( :وهللا جعل لكم من بيوتكم سكنا ً وجعل لكم من جلود األنعام بيوتا ً تستخفونها
يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ً ومتاعا ً الى حين)
(.)4
إذن ال مانع أن نهتم بحاجاتنا األساسية لنسعد في حياتنا .ولهذا قال صلى هللا عليه
وسلم( :من سعادة ابن آدم ثالثة ومن شقوة ابن آدم ثالثة :من سعادة ابن آدم :
المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح ،ومن شقوة ابن آدم :المرأة
السوء والمسكن السوء والمركب السوء) ( .)5وقال( :ثالث خصال من سعادة
المرء المسلم في الدنيا :الجار الصالح والمسكن الواسع والمركب الهنىء) (. )6
ولم يراع اإلسالم مصلحة اإلنسان الضرورية فحسب وإنما لفت نظره الى المناظر
الجميلة ليشبع بها العاطفة الجمالية( :ولقد جعلنا في السماء بروجا ً وزيناها
للناظرين) ( .)7والى زينة الحدائق وانواع االشجار والنبات ( واالرض مددناها
والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج ) ( )8وجمال الحيوانات
والدواب (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) (.)9
وهكذا نجد اإلسالم يقرر لإلنسان حياة مادية حسنة وهذا مما ال شك فيه يشكل جزءا
من سعادة اإلنسان .
التوفيق بين النصوص التي تذم الحياة الدنيا والتي تبيح االستمتاع بها :
غير أنه توجد مالحظة وهي أنه توجد نصوص إسالمية تذم الحياة الدنيا وطالب هذه
الحياة .وال ينبغي أن نظن أنه يوجد تناقض بين تلك النصوص .كما قد يبدو
للنظرة السطحية :
فالزاوية التي ذم الحياة الدنيا منها فهي زاوية الماديين :وهي أن الحياة غاية ال وسيلة
وأنها مستقلة ال حياة بعدها .فعندما نظر اليها اإلسالم من هذه الزاوية ذمها وذم
المنهمكين فيها .النها حياة عارضة زائلة .فهي في هذه النظرة ال تساوي شيئا ً وال
جناح بعوضه ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :لو كانت الدنيا تعادل عند هللا
جناح بعوضة ما سقا كافراً منها شربة ماء) ( .)1وكل االيات واالحاديث التي تذم
الحياة المادية واهلها انما تذمها بهذا االعتبار ومن هذه الزاوية.
أما الزاوية الثانية :فهي أن هذه الحياة ما هي إال وسيلة لحياة أخرى أو مقدمة لها.
يجب إستغاللها لتك الحياة وإشتراؤها بها ،فمن هذه الزاوية وبهذا اإلعتبار مدح
اإلسالم هذه الحياة.
وكان اهتمامه بها على النحو التالي:
تنظيمها تنظيما ً إجتماعيا ً وإقتصاديا ً وسياسيا وقضائيا ً .
دعوة الناس الى أخذ نصيبهم منها :من مأكل ومشرب وزواج وملبس ومسكن قال
تعالى (وكلوا مما رزقكم هللا حالالً طيبا ً وإتقوا هللا الذي أنتم به مؤمنون) (.)2كما
وبخ الذين يمنعون الناس هذه المتعة( :قل من حرم زينة هللا التي أخرج لعباده)
(.)3ثم إن اإلسالم يعتبر هذه الحياة كلها سبيل هللا الى الجنة لمن سار فيها كما
أمر هللا .ولما كان من الممكن أن نشتري بها الجنة فإن قيمتها تساوي الجنة
.ولهذا يخطىء من يترك الدنيا ومن يغرق فيها( :وإبتغ فيما آتاك هللا الدار اآلخرة
)4( ) ....
األمر الثالث :الذي أمر به اإلسالم لكمال الصحة هو اإلعتدال في الحياة والتصرف
فيها طبقا ً للحكمة.
سواء كان في ميدان إشباع الدوافع والمطالب األساسية أم في ميدان العمل أيا ً كان
نوع هذا العمل .
ففي ميدان إشباع الدوافع او الحاجات االساسية قرر اإلسالم بصورة عامة
إشباعها ألن عدم إشباعها يؤدي الى الشعور بالكآبة والضيق والحرمان كما يؤدي
الى بعض األمراض مثل األنيميا (فقر الدم) والعته واالم المفاصل وما الى ذلك .
وكذلك اإلفراط في إشباعها واإلنهماك في الملذات الحسية.فكثرة األكل والشرب
تؤدي الى التخمة والسكتة القلبية.واإلفراط في الجنس يؤدي الى إتالف بعض
األنسجة والخاليا التي ال تعوض ويؤدي بالتالي الى األمراض الفسيولوجية .
لهذا كله منع اإلسالم اإلفراط في االكل والشرب والملذات االخرى فقال تعالى:
(وكلوا وإشربوا وال تسرفوا إنه ال يحب المسرفين) ()1وقال صلى هللا عليه
وسلم( :إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) ( .)2وليس
المرادمن كثرة االمعاءهنا معناها الحقيقي بل القصد منها الكناية عن الكثرة في
االكل .وقال تعالى ( :والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل األنعام) ()3
وكما منع اإلسالم اإلفراط في تحقيق الحاجات الحسية منع ايضا االفراط في التعبد
والتنطع فيه فقال صلى هللا عليه وسلم( :هلك المتنطعون) (.)4وروي عن أنس أن
الرسول صلى هللا عليه وسلم( :نهى عن التبتل) ( )5ونهى الجماعة الذين اعتزموا
مواصلة العبادة فقال( :أما وهللا إني ألخشاكم هلل وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر
وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) (.)6
وروى عن عبد هللا بن عمرو بن العاص أنه صلى هللا عليه وسلم قال( :يا عبد هللا ألم
أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل قلت نعم ،قال فال تفعل صم وافطر وقم ونم
فإن لجسدك عليك حقا ً وإن لعينك عليك حقا ً وإن لزوجك عليك حقا ً ) (.)7
االعتدال في العمل :
أما اإلعتدال في ميدان العمل فضروري ذلك أن اإلرهاق في العمل يؤدي الى
األضرار بالصحة ،فاإلرهاق في العمل العقلي يؤدي الى الجنون .كما أن اإلرهاق
في األعمال الجسدية يؤدي الى اإلختالل في وظائف األعضاء والى األمراض
الفسيولوجية .ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم( :إن المنبت ال أرضا ً قطع وال
ظهراً أبقى) ( .)8وقال( :إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ( ،)9وقال( :إياكم
والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)( )10وقال( :إن الدين
يسر ولن يشاد الدين أحد إال غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا) (.)11
والسعادة تتبع اإلعتدال أو العدالة في كل األمور كما يقول أفالطون في جمهوريته:
(إن العدالة ال تتناول مظاهر أداء اإلنسان لعمله الخاص فحسب وإنما تتناول
البواطن التي تخص الرجل نفسه ومصالحه الخارجية بحيث ال يسمح الرجل
العادل لعناصره المتعددة أن تعمل عمالً غير عملها وال للطبائع المميزة في نفسه
أن يتدخل بعضها في بعض )) 12( .
الغاية الكبرى واثرها على السعادة :
يبقى بعد هذا كله العنصر األخير والهام لتحقيق السعادة في رأي اإلسالم وهو تحديد
الغاية الكبرى لإلنسان في هذه الحياة وهذه الغاية هي الفوز برضى الخالق
والدخول في دار الرضوان.
إن ربط اإلنسان مصيره بالسعادة له دور كبير في إحساسه بالسعادة في مختلف
الظروف مهما تكبد في سبيلها من عناء ومشقة .ألن السعادة أمل اإلنسان عاجالً
أم آجالً.
وهذا األمل هو الذي يبعث في نفس اإلنسان اإلطمئنان( :يا أيتها النفس المطمئنة
ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) ( .)1هذه
الجنة تنعم فيها تلك الوجوه بنعم لم ترها أعين ولم تسمع بها آذن وال خطرت
على قلب بشر (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية.)2( )0000
(مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير
طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل
الثمرات ومغفرة من ربهم ) ( .)3وفيها ( :قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس
قبلهم وال جان كأنهن الياقوت والمرجان) (.)4
وقد روى عنه صلى هللا عليه وسلم( :ينادي مناد في أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فال
تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فال تموتوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فال تهرموا أبداً
وإن لكم أن تنعموا فال تبأسوا أبداً) ()5
وتلك هي السعادة الحقيقة االبدية (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها) (.)6
من هذا كله نرى أن اإلسالم قد حدد لإلنسان عقيدة سليمة وغاية سعيدة ثم حدد له
نمطا ً سلوكيا ً في هذه الحياة تنسجم فيه العقيدة مع الغاية وينسجم مع قوانين الحياة
والدوافع األساسية للطبيعة البشرية.
ثم إن هناك أمراً وهو أن اإلسالم قرران من يسير في هذه الحياة وفقا ً لهذا النمط
السلوكي الذي حدده سوف يسعد في هذه الحياة أيضا قال تعالى ً( :وعد هللا الذين
آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في األرض كما إستخلف الذين من قبلهم
وليمكنن لهم دينهم الذي إرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ً) ((. )7فأما من
أعطى وإتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) ((. )8ومن يتق هللا يجعل له
مخرجا ً ويرزقه من حيث ال يحتسب) (. )9
وقال صلى هللا عليه وسلم( :من سعادة المرء حسن الخلق ومن شقاوته سوء الخلق)
(.)1
ويمكن أن نستخلص من هذه كله أن هدف األخالق في اإلسالم هو السعادة .
وماهية هذه السعادة في نظره تختلف من حيث الزمان والمكان ومن حياة الى أخرى
.فالسعادة في الحياة الدنيا ليست هي السعادة في الحياة األخرى .
واإلسالم يهدف الى تحقيق السعادة في اآلخرة أكثر منا يستهدفها في الدنيا .
والسعادة في نظره ال تقتصر على جانب واحد بل تشمل الجانب الروحي والنفسي
والعقلي والحسي معا .وكلما كان هناك إتساق بين هذه الجوانب زاد نطاق السعادة
كما وكيفا .
الفرق بين هدف االخالق وهدف المسلم الذي يطبق االخالق :
ولكن يجب أن ننبه الى إن األخالق في نظر اإلسالم وإن كانت ترمي الى تحقيق
السعادة فإن هذا الهدف هو هدف األخالق ال هدف الذات الفاعلة .فإن هدف الذات
ينبغي أن ال ينحصر في تحقيق المرء السعادة لنفسه أو لغيره .وإنما ينبغي أن
يكون هدفه األول هو هللا وحده .فهو يقوم بهذه األخالق ألنه مأمور بها من هللا .
وهو يقصد بها وجه هللا ال وجه غيره ،وال وجه السعادة .قال تعالى ( :وما خلقت
الجن واإلنس إال ليعبدون) ( .)2وقال تعالى ( :والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم
وأقاموا الصالة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعالنية ويدرءو بالحسنة السيئة اؤلئك
لهم عقبى الدار ) ()3وقال صلى هللا عليه وسلم( :فإن هللا ال يقبل من األعمال الى
ما خلص له) ( .)4وقال تعالى ( :قل إن صالة ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب
العالمين) ( .)5لذا كان عمل المسلم عبادة ،قال صلى هللا عليه وسلم( :ما يصاب
المسلم من نصب وال وصب وال هم وال حزن وال أذى وال غم حتى الشوكة
يشاكها إال كفر هللا بها من خطاياه) (. )6
مجال األخالق في اإلسالم
مجال اإلخالق هو مجال الحياة كلها .ألن األخالق إذا كانت نمطا ً للعمل والسلوك في
الحياة ،فعمل اإلنسان لمساعدة األخرين أخالق .وعمله لكسب قوته وقوت من
يعوله أخالق ،وإيمانه باهلل وعبادته له أخالق .
ألنه بر كما جاء في اآلية الكريمة ،بل ال يتحقق البر دون اإليمان والعبادة ،والبر هو
األخالق واألخالق هي البر .واألعمال العلمية سواء كانت للتكامل الذاتي أو
للخدمة اإلنسانية أخالق .
ثم معاملة اإلنسان الكائنات الحية بالرفق أخالق ،وكذلك تحمله أعباء الحياة
ومصائبها أخالق.
إذن فكل سلوك إنساني يحقق الخير والبر للذات الفاعلة أو لغيرها يعد أخالقا ً
طالما كانت الذات الفاعلة تريد بسلوكها هذا عمل الخير لوجه هللا قبل كل شيء .
ومصداق ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم( :عجبا ً ألمر المؤمن إن أمره كله خير وليس
ذلك ألحد اال للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء
صبر فكان خيراً له ) (. )1
ثم إن هناك مبادىء أخالقية مثل الصدق واألمانة واإلخالص وإتقان العمل ال بد من
مراعاتها في جميع االحوال واألفعال .
االخالق في جميع انواع السلوك البشري :
ولم يكتف اإلسالم بإضفاء الصفة األخالقية على نوع السلوك ذي الطابع النفعي
والضروري للحياة فحسب .بل أضفى تلك الصفة على كل سلوك ولو لم يتسم
بصفة النفع والضرورة .
ألن األخالق في نظر األسالم ال تحمل معنى النفع فحسب بل تحمل الى جانب ذلك
المعنى التحسيني والجمالي .ومن ثم لم يكن هدفه تحقيق النفع لإلنسان فقط بل
تحقيق الحياة األدبية له التي يمتاز بها عن الحيوان .
من هنا نرى أن اإلسالم يطبع كل سلوك صادر من اإلنسان بالطابع األدبي بصرف
النظر عن مكان هذا السلوك وزمانه ،وبصرف النظر عن صلته باآلخرين .
ولهذا نرى اإلسالم يأمر باألدب في المأكل والمشرب والملبس والمشي والتحدث
ومعاشرة النساء .
ففي المأكل أمر – مثالً – أن يبدأ بالبسملة ويأكل بيمينه وأن يأكل مما يليه فقد روي
عن أبي سلمة رضي هللا عنه( :كنت غالما ً في حجر رسول هللا وكانت يدي
تطيش بالصحفة فقال لي رسول هللا يا غالم سم هللا وكل بيمينك وكل مما يليك)
(. )1
وقال في الشرب( :إذا شرب أحدكم فليشرب في ثالث أنفاس يحمد هللا في كل منها))
(.)2
وفي الملبس أمر بالتستر واإلحتشام ولو في السر حتى ولو في الحمام قال الرسول
صلى هللا عليه وسلم ( :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فال يدخل الحمام بغير
إزار) ( . )3ألن الحياء جزء هام في األدب بل إنه جزء من اإليمان فإن ( الحياء
من اإليمان ) ( .)4وليس الحياء من الناس بل من هللا والمالئكة .واإلستحياء من
هللا له دور هام في تجنب المعاصي ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :إذا لم تستح
فاصنع ما شئت) ()5
وفي المجلس أمر بالجلوس المتواضع الرزين فقد روي عن الشريد بن زيد قال مر
بي رسول هللا وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري وإتكأت
على إلية يدي فقال( :أتقعد قعدة المغضوب عليهم) (. )6
وفي المشي أمر باإلقتصاد والتواضع فقال( :وال تمش في األرض مرحا ً إن هللا ال
يحب كل مختال فخور وإقصد في مشيك) (.)7
وقال( :وال تمش في األرض مرحا ً إنك لن تخرق األرض ولن تبلغ الجبال طوالً كل
ذلك كان سيئة عند ربك مكروها ً ذلك مما أوحى اليك ربك من الحكمة ) (. )8
وعند الكالم أمر بعدم رفع الصوت وعدم التكلف والتشدق في الكالم فقال تعالى ( :
وأغضض من صوتك إن أنكر األصوات لصوت الحمير) ( . )9وقال صلى هللا
عليه وسلم ( :إن هللا يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة
بلسانها) ( .)10وعند معاشرة األخرين دعا الى مراعاة الشعور واإلحساس
األدبيين في الحركات فدعا مثالً الى بسط الوجه عند المقابلة ونهى عن تصعير
الخد ،فقال تعالى ( :وال تصعر خدك للناس) (. )11
وقال صلى هللا عليه وسلم( :إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط
وجوه وحسن خلق ) ( . )1ودعا الى عدم التناجي بين اثنين دون الثالث فقال
صلى هللا عليه وسلم ( :إذا كنتم ثالثة فال يتناجى إثنان دون صاحبهما) ( . )2كما
دعا إحترام كل إنسان بما يليق به من التقدير حسب دينه وعلمه ومنزلته بين
الناس فقال صلى هللا عليه وسلم ( :أنزلوا الناس منازلهم من الخير والشر) )3( .
كما دعا الى الظهور بالمظهر الجميل أمام الناس فقد روي أن رجالً جاءه صلى
هللا عليه وسلم ثائر الرأس فأشار عليه بإصالح شعره وجاء آخر وشعره جمه
وأشار بقصه ثم قال هذا أحسن)4( .
وعندما سأله رجل هل من الكبر أن يكون ثوب اإلنسان حسن ونعله حسن فقال
الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :إن هللا جميل يحب الجمال إنما الكبر بطر الحق
وغمط الناس) ( . )5وكان ينصح دائما ً بتحسين الهندام وتجميل الظاهر وتطهير
الثياب () . 6
فرض االخالق على السلوك الباطني لالنسان :
ولم يفرض اإلسالم المبادىء األخالقية على السلوك اإلنساني الظاهري فقط بل
والسلوك الباطني ألن الحياة قسمان ،قسم ظاهري محسوس ،وقسم باطني غير
محسوس .وأهمية األخير ال تقل عن األول.
بل إن مظاهر األول ما هي اال انعكاس للثاني.
ولهذا كانت األخالق اإلسالمية مركزة على الحياة الباطنة في الدرجة األولى .ألنها
إذا صلحت صلحت األخرى .لهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :اال إن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله أال وهي القلب)
( . )7ويجمع هذا قوله تعالى ( :قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن ) ( . )8ومن هنا دعى الى تجميل الباطن وتحسينه .فدعا الى حسن الظن
بالخالق كما دعا الى حسن الظن بالمخلوق .قال صلى هللا عليه وسلم ( :حسن
الظن من حسن العبادة) ( .)9وقال راويا عن ربه ( :أنا عند حسن ظن عبدي بي
إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر ) )10( .
وقال تعالى( :يا ايها الذين آمنوا إجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) (.)1
ثم دعى الى الفأل ونهى عن التشاؤم والتطير وقال صلى هللا عليه وسلم ( :ال طيرة
ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة) (. )2ألن التشاؤم والتطير وسوء الظن من
العوامل التي تؤدي الى الكآبة والقلق وعدم راحة البال .
والى جانب دعوته الى التفاؤل نهى عن األمور التي تجعل الحياة النفسية ظالما ً قاتما ً
وتزيل منها البشاشة والبهجة كالتباغض والتحاسد والحقد والكراهية .ولهذا قال
صلى هللا عليه وسلم ( :ال تباغضوا وال تحاسدوا وال تدابروا وال تقاطعوا وكونوا
عباد هللا إخوانا ً ) ( . )3وقد عد بعض علماء النفس هذه الرذائل من األمراض
النفسية واإلجتماعية ،ثم دعا الى المحبة ألنها تضفي على حياة الناس البهجة
والنشاط والفاعلية .ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم( :إن من عباد هللا أناسا ً ما هم
بأنبياء وال شهداء يغبطهم األنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من هللا قالوا يا
رسول هللا تخبرنا من هم؟ قال( :هم قوم تحابوا بروح هللا على غير أرحام بينهم
وال أموال يتعاطونها فوهللا إن وجوههم لنور ال يخافون إذا خاف الناس وال
يحزنون إذا حزن الناس (أال إن أولياء هللا ال خوف عليهم وال هم يحزنون) ()4
ومن التوجيهات األخالقية للحياة الداخلية القناعة والرضى :
القناعة بما في يدك وعدم التطلع لما في أيدي الناس ألن الغنى كما قال صلى هللا عليه
وسلم ( :ليس عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) ( .)5ألن النفس بغير
القناعة ال تشبع من المال ولو ملكت الدنيا .ثم رضى المرء بما هو فيه له دور
كبير في طمأنينة الحياة الداخلية .ألن عدم الرضى يؤدي الى التبرم والضجر .
والرضى وسيلة الى تهدئة النفس من الملمات والمصائب التي ال مخرج منها .ولذلك
فهي وسيلة للشعور بالغنى قال صلى هللا عليه وسلم ( :إرض بما قسم هللا لك تكن
أغنى الناس) ( . )6ووسيلة الشعوربالرضى هي أن ينظر اإلنسان في المال
والصحة الى من هو دونه قال صلى هللا عليه وسلم ( :أنظروا الى من هو أسفل
منكم وال تنظروا الى من هو فوقكم فهو أجدر أن ال تزدروا نعمة هللا عليكم) (.)1
وال ينبغي ان يفهم من هذا أن األخالق في اإلسالم دعوة الى التكاسل واإلتكال .إذ أن
هناك فرقا ً في التنافس بين ميدان وآخر .
ففي ميدان الصحة والمال ال ينبغي التنافس والتباهي بينما األمر ممدوح في ميدان
الفضائل اإلنسانية.
ومن التوجيهات دعوته الى جعل اإلرادة العاقلة الخيرة مسيطرة على أعمال النفس
ونزعاتها .وهذه اإلرادة هي التي يجب أن تسيطر على قوى النفس مثل الغضب
والشهوة ومثل الشح واإلنتقام.
ففي الغضب قال ( :ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
) (. )2
والشهوة ( :وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) ( .)3واإلنتقام بكظم
الغيض والعفو.
واألثرة باإلنفاق في السراء والضراء قال تعالى ( :الذين ينفقون في السراء والضراء
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) ()4
وليس معنى سيادة اإلرادة أن تقف في وجه نزعات الشر .بل معناها استخدام هذه
القوى في سبيل تحقيق الخير .
هذه اإلرادة إذا سيطرت تصبح روحا ً توحي دائما ً بالخير .وتدفع اإلنسان بإستمرار
الى تحقيق الخير للناس .ومن ثم تصبح قوى موجهة الى الخير ونوراً يضيء
جوانب النفس المظلمة ثم يفيض منها .عند ذلك يشعر اإلنسان أنه خير وذلك
سبيل السعادة والطمأنينة النفسية.
من هذا كله نرى أن اإلسالم قد جاء بمبادىء وجه بها النفوس الى ما فيه سعادتها
وشفى ما فيها من أمراض هي سبب شقاوتها .وصدق هللا العظيم ( :قد جاءتكم
موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) (( .)5فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع
هداي فال يضل وال يشقى ) (.)6
وأخيراً يتبين لنا بوضوح أن األخالق اإلسالمية تحاول إخضاع كل
سلوك ما ظهر منها وما بطن لروح األخالق التي جاء بها .وهي
تستهدف من وراء ذلك صالح اإلنسان وسعادته في هذه الدنيا .
وإذا كان االمر كذلك فإن مجال االخالق هو هذه الحياة كلها من حيث
هي موضوع االخالق وغاياتها معا ً .
مدى ضرورة األخالق في اإلسالم
اهمية األخالق للحياة اإلنسانية في نظر اإلسالم أكثر من اهمية العلوم األخرى .
لذا جعل األخالق مناط الثواب والعقاب في الدنيا واآلخرة.
فيعاقب الناس بالهالك في الدنيا لفساد أخالقهم ( لقد أهلكنا القرون من قبلكم لما
ظلموا) ( ،بالغ فهل يهلك إال القوم الفاسقون)( ،وما كان ربك ليهلك القرى بظلم
واهلها مصلحون) .
ويكافىء األبرار والصالحين بالجنة ويعاقب الفجار واألشرار بالنار ( إن األبرار لفي
نعيم وإن الفجار لفي جحيم) .وقال صلى هللا عليه وسلم( :إن من أحبكم وأقربكم
مني مجلسا ً يوم القيامة أحاسنكم أخالقا ً وإن من أبغضكم الي وأبعدكم مني يوم
القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون) .
وسأل رجل مرة الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :أي المسلمين خير؟ فقال من سلم
المسلمون من لسانه ويده) وقد قرن هللا تعالى بر الوالدين والشكر لهما بالشكر له
وبعبادته فقال تعالى( :ووصينا اإلنسان بوالديه حملته أمه وهنا ً على وهن وفصاله
في عامين أن أشكر لي ولوالديك الي المصير) .
واعتبر عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد اإلشراك باهلل فقال صلى هللا عليه وسلم( :
أال أخبركم بأكبر الكبائر قالوا :نعم قال :الشرك باهلل وعقوق الوالدين وشهادة
الزور وقتل النفس ) .
ولم يجعل هذه األهمية للعلم إذ ال يعاقب هللا اإلنسان ال في الدنيا وال في اآلخرة ألنه
جاهل بل يعاقب العالم غير المتخلق فقال صلى هللا عليه وسلم( :يؤتى بالرجل
وفي رواية بالعالم يوم القيامة فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى
فيجتمع اليه أهل النار فيقولون يا فالن مالك ألم تكن تأمر المعروف وتنهى عن
المنكر فيقول بلى كنت آمر بالمعروف وال آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) .لكن ال
ينبغي أن يفهم من هذه أن اإلسالم يفضل الجاهل على العالم إذ ال شك في أن
العالم المتخلق أفضل من الجاهل المتخلق (يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا
العلم درجات) ( ،قل هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون) .
وال شك في أن الجاهل المتخلق أفضل من العالم الفاسد إذ أن ضرر األول محدود أما
الثاني فإنه يستطيع أن يفسد المجتمع بأسره بل المجتمعات بأسرها .
ولهذا اعتبر الرسول صلى هللا عليه وسلم العالم الفاسد أشر الناس وبين أن هالك
األمة بسبب العلماء الفاسدين فقال (:شرار الناس شرار العلماء في الناس) ( ،إنما
أخاف على أمتي العلماء المضلين) .
من هنا نرى اإلسالم أخضع األعمال العلمية للمبادىء األخالقية سواء كان في ميدان
البحث أو في ميدان نشر العلم مثل مبدأ اإلخالص واإلتقان واألمانة ،فقال الرسول
صلى هللا عليه وسلم ( :من تعلم علما ً لغير هللا أو أراد به غير هللا فليتبوأ مقعده
من النار) ،وقال ( :من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتى ومن أشار على
أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) .وقال تعالى( :وال تقف ما ليس لك
به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤوالً ) .وقال الرسول
صلى هللا عليه وسلم( :من سئل عن علم فكتمه ألجمه هللا بلجام من نار يوم
القيامة) .وقال تعالى( :وإذ أخذ هللا ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس وال
تكتمونه ) .
والسبب في إهتمام اإلسالم باألخالق هذا اإلهتمام كله هو أن األخالق أمر ال بد منه
لدوام الحياة اإلجتماعية وتقدمها من الناحية المادية والمعنوية.
وذلك حق ال يماري فيه من يتأمل المبادىء األخالقية ومدى ضرورتها للحياة
اإلنسانية .ولنتصور حياة مجتمع ماذا يحصل أو يحدث لو أهملت المبادىء
األخالقية وسادت فيها الخيانة والفسق والكذب والغش والسرقة وسفك الدماء
والتعدي على الحرمات والحقوق وزالت كل المعاني اإلنسانية في عالقات الناس
من المحبة والمودة والنزاهة والتعاون والتراحم واإلخالص ،فهل يمكن أن تدوم
الحياة اإلجتماعية في هذه الحالة ؟
ال شك أن الحياة تتحول الى جحيم ال يطاق ويتحول الناس الى وحوش ويشقون شقا ًء
كبيراً ألن اإلنسان بحكم طبيعته بحاجة الى الغير وفي طبيعته نزعة التسلط
والتجبر والتكبر واألنانية واإلنتقام .
فإذا استخدم هذه القوى في الفساد أهلك الحرث والنسل وصدق هللا العظيم ( :وإذا
تولى سعى في األرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ) .
ولهذا فإن اإلنسان بحاجة الى نظام خلقي يحقق له حاجته اإلجتماعية ويقف أمام ميوله
ونزعاته الشريرة ويوجهه الى استخدام قواه في ميادين يعود نفعها على نفسه
وعلى غيره بالنفع والخير .
ولهذا أمر بالتعاون األجتماعي في تحقيق الخير ونهى عن التعاون في اإلثم فقال هللا
تعالى ( :وتعانوا على البر والتقوى وال تعانوا على اإلثم والعدوان) .
ونهى عن القتل بكل شدة حتى قتل اإلنسان نفسه ،ألن القتل في نظرة تعد على الحياة
.
ثم إنه ال يتعبر تعديا ً على حياة فرد وإنما يعتبره تعديا ً على حياة الناس ألنه ( :من قتل
نفسا ً بغير نفس أو فساد في األرض فكأنما قتل الناس جميعا ً ومن أحياها فكأنما
أحيا الناس جميعا ً ) .
ألن التعدي على الجزء تعد على الكل .
وكذلك إنقاذ الجزء من الكل يعد إنقاذاً للكل .
ولم يحرم القتل فقط بل حرم أيضا ً كل األمور التي قد تؤدي الى القتل .
لذا نراه ينهى عن إثارة الفتنة ويعتبرها أشد من القتل ألنها ال تؤدي الى قتل فرد
فحسب بل تؤدي الى تقتيل ( والفتنة أشد من القتل) (والفتنة أكبر من القتل) .
وللوقوف امام إراقة الدماء قرر اإلسالم أن من قتل غيره عمداً يقتل وهذا زجر
رادع عن التشبث بالقتل ألن الشخص إذا عرف أنه إذا قتل يقتل فيرتدع ،ولهذا
قال تعالى ( :وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين واألنف باألنف
واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص) .
والقصاص يقتضي إجراء ضرر في المعتدي بمقدار ما أحدثه في المعتدى عليه .
والسر هو الحد من نزعة األنتقام وإيقاف الفتن ألن اإلنسان إذا أعتدى عليه ولحق
به من جراء ذلك ضرر يحاول أن يعتدي أكثر مما يعتدي عليه ،وأن يلحق ضرراً
أكثر مما لحق به وذلك تكبراً وتجبراً فإن اعتدى عليه واحد من قوم يعتدي على
جميع القوم وإن أريق منه قطرة دم يريق جميع دم من اعتدى عليه وبذلك تستحيل
الحياة .
والقصاص يحفظ الحياة ( ولكم في القصاص حياة يا أولي األلباب) .
ثم إن اإلسالم دعا الى العفو وهو فضيلة أخالقية هامة في الحياة .
إذ إن العفو يؤدي الى إزالة األحقاد واألضغان وينقذ حياة الناس .
ولهذا حبب اإلسالم العفو الى الناس حتى في القصاص ( وجزاء سيئة سيئة مثلها
فمن عفا وأصلح فأجره على هللا إنه ال يحب الظالمين) .وقال ( :يا أيها الذين أمنوا
كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد واألنثى باألنثى فمن
عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف واداء اليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم
ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) .
ولم يدع اإلسالم الى العفو فحسب بل دعا مقابلة السيئة بالحسنة ألنها أكبر عامل
لخلق المودة .
وذلك أن اإلنسان المسيء عندما يرى اإلحسان ممن أساء اليه يزيد تقديره لذلك
اإلنسان ثم يلين قلبه ويتحول عما في نفسه الى مودة له ( ادفع بالتي هي أحسن
السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ).
وإذا تذكرنا موقف الرسول صلى هللا عليه وسلم مع المسيئين اليه أدركنا تماما ً أثر
العفو في جميع الناس وتأليفهم في الحياة العملية وتقديرهم لإلنسان الذي يعفو
ويصفح عن الناس .
ونحن نعلم أن الرسول صلى هللا عليه وسلم طرد وشرد وحاولوا قتله ال ألنه قتل بل
ألنه كان يدعو الى الحق ولما عاد الى مكة فاتحا ً قال ( :اذهبوا فانتم
الطلقاء).وبمثل هذه االخالق جمع الرسول صلى هللا عليه وسلم الناس حوله ( ولو
كنت فظا ً غليظ القلب النفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في
األمر) .
ومن المبادىء االخالقية شديدة الصلة بالحياة الصبر :
فالصبر طاقة تزيد اإلنسان قوة وصالبة يستطيع بها مواجهة الصعاب وشدائد الحياة .
والصبر انواع :الصبر على المصائب والصبر على أداء الواجبات والصبر على
الشهوات واألهواء ولنختار النوع األول باعتباره اهم نوع يتصل بموضوعنا .
وأهم عنصر في اإلسالم يسلح اإلنسان بالصبر هو عنصر اإليمان الذي يعد أساسا ً في
األخالق اإلسالمية واإليمان باهلل واستمداد العون منه وانتظار الثواب منه على
الصبر على المصائب باعتبارها امتحانا ً منه أو تكفيراً للسيئات فااليمان يهون
على اإلنسان تلك المصائب .
ولهذا كان الرسول صلى هللا عليه وسلم يدعو هللا ويقول ( :واسالك من اليقين ما
تهون به علينا مصائب الدنيا ).
والصبر على الباليا من األمور العظيمة كما قال تعالى ( :واصبر على ما أصابك إن
ذلك من عزم األمور) (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونعلم الصابرين) .
وجزاء الصبر عظيم غير مقدر ويعطى الصابر أجراً بغير حساب ( إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب ) .
والصبر وسيلة النجاح في الحياة والوصول الى المقاصد ألنه قوة يحقق بها اإلنسان
أعماالً فوق طاقته الطبيعية ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) و(كم
من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن هللا وهللا مع الصابرين) .
وقال ( :وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) .
وقد تظهر قيمة فضيلة الصبر بصورة أكثر وضوحا ً عندما نتصور مصير غير
الصابرين عند الشدائد والمصائب في الحياة إذ أننا نراهم يصابون فيها بأمراض
مختلفة وخاصة الشلل والذبحة الصدرية والخلل العقلي وقد يؤدي بهم الى
االنتحار .
فالجزع ال يؤدي الى الفشل في الحياة وعدم إنجاح المقاصد فحسب بل الى انعدام
الحياة وزوالها ،ولهذا قال الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :ما أعطي أحد عطاء
أوسع من الصبر ) .
ولما كان الصبر يجعل اإلنسان يتحمل صعوبات الحياة ببسالة وشجاعة وعدم الصبر
يؤدي الى مظلمة قال الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :الصبر ضياء) .
واإلسالم ال يتحقق إال بأمرين أولهما اإليمان به وثانيهما العمل بمقتضى ذلك اإليمان
وهو يعتمد على الصبر .
ولهذا فمن شأن المسلم أن يكون صابراً مهما كانت الظروف والمصائب ولهذا قال
الرسول صلى هللا عليه وسلم ( :مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئه الريح مرة
وتعدلها مرة ،ومثل المنافق ( وفي رواية الكافر وفي أخرى الفاجر) كاألرزة ال
تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة ) .
وهكذا نجد اإلسالم يزود اإلنسان بالطاقة الحيوية التي تمكنه من أن يحيا حياة طبيعية
في أحرج الظروف ....كما يستطيع بها أن يحيا حياة أبدية في األخرة ولهذا سمي
اإلسالم دعوته دعوة الحياة فقال تعالى ( :يا أيها الذين آمنوا استجيببوا هلل
وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) .
ومن أهم المبادىء األخالقية المتصلة بدوام الحياة اإلجتماعية وتقدمها مبدأ
العدالة .
ومفهوم العدالة في اإلسالم هو إعطاء كل ذي حق حقه .
وفي نظر اإلسالم أن هلل على اإلنسان حقوقا كما أن لنفسه ولغيره عليه حقوقا ً .
مصداق ذلك ما جاء في الحديث( :إن لربك عليك حقا ً وإن لنفسك عليك حقا ً
وألهلك عليك حقا ً فأعط كل ذي حق حقه) .
وحق هللا على اإلنسان هو اإلعتراف بربوبيته وما يترتب عليه من الشكر والعبادة له
.
وحقوق النفس على اإلنسان هو تحقيق متطلباتها الضرورية ،كما مر معنا .
وأما حقوق الغير على اإلنسان فهي تتمثل بصورة عامة في احترام الطبيعية المادية
منها واألدبية في تنفيذ العهود المبرمة ثم عدم استغالل أي إنسان واتخاذه غرضا ً
قال الرسول صلى هللا عليه وسلم( :وال تتخذن أحداً من خلق هللا غرضا ً فيجعلك
هللا عوضا ً ) .
وقال عندما سألوه بعدما ذكر كيف أن هللا غفر للرجل الذي سقى الكلب العطشان ،يا
رسول هللا وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال ( :في كل ذات كبد رطبة اجر ).
ولقد حدد الرسول صلى هللا عليه وسلم أهم حقوق اإلنسان التي يجب مراعاتها وهي
حق الحياة والعرض والكرامة اإلنسانية فقال صلى هللا عليه وسلم( :كل المسلم
على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ،التقوى ها هنا بحسب امرىء من الشر أن
يحقر اخاه المسلم).
ثم إن اإلسالم لم يكتف بتقرير الحقوق والواجبات نحو الغير بل دعا الى تجاوز حدود
الواجبات في المعاملة الخيرة .واعتبر كل عمل وكل إحسان الى الغير صدقة حتى
التبسم في وجوه اآلخرين فقال صلى هللا عليه وسلم :تبسمك في وجه أخيك صدقة
وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضالل
لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوك
والعظم عن الطريق لك صدقة ،وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة).
بل أكثر من هذا فقد عد اإلسالم كل إحسان الى أي مخلوق حي صدقة فقال صلى هللا
عليه وسلم( :في كل ذات كبد رطبة أجر).
والعدالة أنواع :عدالة الحاكم وعدالة الفرد العادي.
فالحاكم عليه أن يبحث عن الحقوق الضائعة ويعطيها أهلها ويأخذ من الظالم ويعطي
المظلوم حقه .
ثم إن عليه أن يكافىء الناس على حسب أعمالهم وجهودهم وهذا هو عدل الحاكم بين
الناس .قال تعالى( :وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) .
وأن يحكم بما أنزل هللا ( ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الفاسقون).
وفي آية وصفهم بالظلم وفي الثالثة بالكفر.
وأما عدالة الفرد العادي فهي إعطاء ما لغيره عليه .
وأن يقول الحق إذا حكم أو طلب منه الشهادة أو أراد اإلصالح( :وإذا قلتم فاعدلوا
ولو كان ذا قربى) ( وال يجرمنكم شنآن قوم على أال تعدلوا اعدلوا هو أقرب
للتقوى).
والعدالة تقتضي األمانة والنزاهة واإلخالص ( فإن أمن بعضكم بعضا ً فليؤد الذي
اؤتمن أمانته وليتق هللا ربه وال تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وهللا بما
تعلمون عليم) ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل وال يأب كاتب أن يكتب كما علمه هللا )
(كونوا قوامين هلل شهداء بالقسط).
وهكذا يأمر هللا بالعدالة كل إنسان في فعله وقوله بحسب مسؤوليته ومجال إدارته (
إن هللا يأمر بالعدل واإلحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) .
وذلك كله لتسود العدالة المجتمع كله .وال شك في أن كل إنسان إذا طبق العدالة في
نفسه وفي غيره وإذا نفذ الحاكم العدالة بالسلطة فال بد أن تسود العدالة حياة
المجتمع.
وسيادة العدالة تؤدي الى سيادة األمن والمحبة والمودة واإلستقرار والنشاط العملي
والفكري في حياة المجتمع وهذا بدوره يؤدي الى إزدهار الحياة المدنية .
وانعدام العدالة يؤدي الى انتشار الرعب والحقد واإلضطرابات والتناحر وقلة اإلنتاج،
يقول الماوردي( :إن العدل الشامل يدعو الى األلفة ويبعث على الطاعة وتنمو به
األموال ويكثر النسل ويأمن به السلطان وليس شيء أسرع في خراب األرض وال
أفسد لضمائر الخلق من الجور) .
ولهذا أمر هللا بالعدالة فقال( :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين هلل شهداء بالقسط وال
يجرمنكم شنآن قوم أال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا هللا إن هللا خبير بما
تعملون).
ولقد بين ابن خلدون أن ضياع العدالة وانتشار الجور والظلم يؤديان الى فساد الحياة
وخراب العمران فيقول( :إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم
في تحصيلها واكتسابها ،لما يرون من أن غايتها ومصيرها وانتهابها من أيديهم
وعلى قدر اإلعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في اإلكتساب
والعمران ووفوره وتقام أسواقه إنما هو باألعمال ،فإذا قعد الناس عن المعاش
وكسدت أسواق العمران وتفرق الناس في اآلفاق في طلب الرزق فخف ساكن
القطر وخلت دياره وخربت أمصاره واختل باختالله حال الدولة) .
ويمكننا أن نستخلص مما سبق أن األخالق تؤدي الى أمرين هامين في الحياة:
أولهما :دوام الحياة :دوام الحياة اإلجتماعية وتماسكها.
وثانيهما :تقدم الحضارة من الناحية العلمية والعمرانية.
غير أن معالجتنا لهذا الجانب الثاني لم تكن واضحة تمام الوضوح ألن تركيزنا كان
منصبا ً على الجناب األول .
واآلن نعالج هذا الجانب األخير ،وإذا نظرنا الى المبادىء األخالقية وجدنا هناك
مبادىء شديدة الصلة بهذا الجانب األخير.
ولنأخذ مثالً العنصر األول في تقدم الحضارة وهو العلم.
فنجد اإلسالم يهتم بالعلم ويدعو الناس الى الجد في طلبه ويرفع شأن العلماء ويحثهم
على نشر العلم ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون).
وقال صلى هللا عليه وسلم( :ال حسد إال في اثنتين رجل آتاه هللا ماالً فسلطه على
هلكته في الحق ورجل آتاه هللا الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ).
وبين أن األثر العلمي الذي يتركه اإلنسان في حياته سوف ينال ثواب جهوده بعد
مماته ما بقي هذا األثر فقال( :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث :صدقة
جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ).
كما بين أن اإلنسان الذي يعمل بعلمه وهديه سينال أجراً مثل أجر العامل ،قال ( :من
دعا الى هدى كان له من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك من أجورهم
شيئا ً ).
ووردت نصوص كثيرة تأمر اآلباء بتعليم أبنائهم حتى تعليم خادمهم وتحسين أدبهم
حتى ينتشر العلم والفضيلة في المجتمع اإلسالمي.
ولذلك رفع شأن طالب العلم فقال صلى هللا عليه وسلم( :إن المالئكة لتضع أجنحتها
لطالب العلم رضا ً بما يصنع).
ودعا الى البحث عن العلم واإلغتراب من أجله قال تعالى( :فلوال نفر من كل فرقة
منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم).
كما أمر باحترام طالب العلم وإكرامهم وخاصة الذين اغتربوا من أجل العلم قال
صلى هللا عليه وسلم( :إن رجاالً يأتونكم من أقطار األرضين يتفقهون في الدين
فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).
وال شك أن اإلنسان إذ رأى من الناس تقديرهم جهوده العلمية وإذا علم أن له ثوابا ً
عند هللا آلثاره العلمية يناله بعد موته فإنه يشجعه على أعمال علمية عظيمة ،وهذا
بدوره يؤدي الى ازدهار العلم وتقدمه ومن ثم تكون النتيجة تقدم الحضارة ألن
العلم أساس الحضارة.
كما نجد في اإلسالم توجيهات أخالقية تؤدي الى التقدم اإلقتصادي.
فالتقدم اإلقتصادي يتم عن ثالثة طرق :الزراعة ،الصناعة ،التجارة.
ونجد اإلسالم يدعو الى اإلهتمام بكل هذا.
فالزراعة يعتبر كل نفع يأتي لإلنسان أو للحيوان صدقة للزارع فقال صلى هللا عليه
وسلم ( :ال يغرس المسلم غرسا ً وال يزرع زرعا ً فيأكل منه إنسان وال دابة وال
شيء إال كانت له صدقة).
وهو يدعو الى اإلختراع الذي يأتي منه الخير للناس فقال صلى هللا عليه وسلم( :من
سن في اإلسالم سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها وال
ينقص من أجورهم شيء).
وسيأتي حديث (من سبق الى ما لم يسبقه اليه مسلم فهو أحق به ).
وأما فيما يتعلق بالتجارة فنجد نصوصا ً كثيرة( :يا أيها الذين آمنوا إذا نوي للصالة
.) .........
والقرآن يحث على أن تكون التجارة عن تراض ال عن غضب واستغالل ( :يا أيها
الذين آمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون تجارة عن تراض منكم).
ألن التجارة المستغلة ال تؤدي الى رفاهية المجتمع بل الى التناحر والتطاعن
والحروب التي رأينا ويالتها وال زالت الشعوب تعاني منها .
وقد نهى صلى هللا عليه وسلم اإلنسان أن يكون عالة على غيره وأمره باإلكتساب
بعمل يده ( ألن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على
ظهره فيبيعها فيكف هللا بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه).
وكذلك فيما يتعلق بالتعمير واإلعمار فقد دعا اإلسالم الى إحياء األراضي الميتة وفتح
اآلبار والبحث عن المعادن وبناء المساجد والعمارات للمساكين والفقراء وجعل
لمن يكافح في هذه الميدان مكافأة.
وقد ورد ذلك كله في نصوص كثيرة منها ما ورد في إحياء الخراب واألراضي الميتة
فقال صلى هللا عليه وسلم ( :من أعمر أرضا ً ليست ألحد فهو أحق).
وفي حفر اآلبار جاء في حديث معناه من حفر بئراً أو اشتراه وجعله للمسلمين فله
الجنة أو يبدله هللا خيراً منه الجنة
وقال صلى هللا عليه وسلم( :من سبق ما لم يسبقه اليه مسلم فهو أحق به ).
وقال أيضا ً ( :من أحيا أرضا ً ميتة فله أجر وما أكلت الحوافي منه فهو صدقة).
وفيما يتعلق بالبناء قال صلى هللا عليه وسلم ( :من بنى مسجداً يبتغي به وجه هللا بنى
هللا له مثله في الجنة).
ولقد سبق أن ذكرنا أن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال ( :من سعادة المرء المسكن
الصالح).
كما شجع اإلسالم على إقامة المشروعات مثل بناء المساكن وإصالح األراضي وحفر
اآلبار ثم وقفها للفقراء والمساكين.
فقال صلى هللا عليه وسلم ( إن مما يلحق المؤمن من عمله بعد موته علما ً علمه
ونشره أو بيتا ً البن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها في صحته
وحياته) .
وهكذا نجد أن التوجيهات األخالقية في اإلسالم كلها بناءة ،تأمر بالتعمير واإلصالح.
ثم إن هناك مبدأ أخالقيا ً طلب اإلسالم تطبيقه في كل عمل وهو مبدأ إتقان العمل،
فقال صلى هللا عليه وسلم ( :يحب هللا العامل إذا عمل أن يحسن) وفي رواية أن
يتقن .
وأن يالحظ دائما ً أن هللا والناس سيرى عمله (وقل اعملوا فسيرى هللا عملكم ورسوله
والمؤمنون).
وإتقان العمل أن يبذل اإلنسان قصارى جهده ليتم العمل في أتم وأكمل صوره.
ثم إن إتقان العمل والصنع من صفات هللا الفعلية كما جاء ( وترى الجبال تحسبها
جامدة وهي تمر مر السحاب صنع هللا الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) .
وهذا من صفات الكمال وينبغي لإلنسان أن يتشبه بالكمال .
وال شك أن السعي للكمال يؤدي الى تقدم الحضارة.
فإذا سعى العالم لإلتقان في العلم تقدم العلم وكذلك أهل الصناعة والموظفون.
وهكذا نجد أن األخالق اإلسالمية بطبيعتها تدعو الى التكامل .
التكامل في البناء اإلجتماعي الذي يقوم بتوطيد العالقات اإلنسانية على أساس اإليمان
واإلخالص .
ثم الى التكامل في ميدان العمل والصناعة والمعرفة.
وكال التكاملين ال بد منه إليجاد حياة إنسانية سعيدة .
من اجل ذلك كله كان اإلسالم ضياء ونوراً يضيء أمام اإلنسان ويهديه الى طريق
السعادة ،وصدق هللا العظيم (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور
الذي انزل معه أولئك هم المفلحون).
ولهذا كان منهاج اإلسالم في الحياة هدى هللا فمن اتبع هدى هللا فال يضل وال يشقى (
فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فال يضل وال يشقى ) .
وعلى ذلك لو عملت األمة بروح األخالق اإلسالمية ألصبحت أرقى األمم وأسعدها
من جميع النواحي ألنها تدعو كل فرد الى أن يكون إنسانا ً خيراً عالما ً فاضالً وال
يمكن أن تتقدم أمة إال بذلك ،ولذلك نرى ان األخالق اإلسالمية ضرورية وغاية
في األهمية .
تقرير مبدأ اإللزام واإللتزام األخالقي
قبل بيان رأي اإلسالم في معنى اإللتزام األخالقي ينبغي أن نشير الى تحديد هذا
المعنى ومصادره في الفلسفات األخالقية .
من النتائج الهامة التي توصل اليها العلماء في موضوع الحرية :وجود حرية أخالقية
ووجود سلطة أو جبرية أخالقية .
والجبرية المقصودة هنا ليست الجبرية القهرية ،وإنما الجبرية التي يمكن لإلنسان أن
يخالف دواعيها بشكل من أشكال المخالفة وهذا ما يقصد من اإللزام األخالقي .
وتحديد معنى اإللزام له قيمة ،ذلك أنه ال معنى للمسؤولية األخالقية بدون الحرية
األخالقية .
كما أن السلوك األخالقي يظهر بصورة أكثر وضوحا ً عندما ينفذ هذا السلوك عن
حرية واختيار .
وإذا كان األمر كذلك فال بد من ان تكون هناك حرية تجاه اإللزام .
وتفضيل السلوك األخالقي على السلوك غير األخالقي .
وكما يكون اإللتزام عن دافع خارجي يكون ايضا ً عن دافع داخلي .
وأيا ً كان األمر فال بد من وجود الزام والتزام في العمل األخالقي .
ودرجة اإللتزام مبنية على درجة اإللزام من حيث القوة والضعف ومن ثم من حيث
التمسك بالمبادىء األخالقية وعدم التمسك بها .
ولما كان من اهم خصائص األخالق القويمة مدى ما فيها من قوة تدفع الناس الى
العمل بها كان اإللزام إذن من أهم األسس التي يقوم عليها صرح بناء األخالق .
ومعرفة مدى اإللزام تستدعي معرفة مصادر اإللزام فمتى اردنا أن نقدر مدى ما في
األخالق اإلسالمية من إلزام ينبغي أن نبحث عن مصادره .
وقبل ذلك لننظر أوالً الى مصادر اإللزام في اإلتجاهات الفلسفية .
وبفحص هذه اإلتجاهات نجد اتجاهين رئيسيين :
األول يرجع سلطة اإللزام الى مصادر خارجية .
ويختلف أنصار هذا االتجاه في مصدر هذه السلطة .
فمنهم من يرى انه الجماعة :مثل أوجست كونت ،ودور كايم ،وليفي بريل ومن ذهب
مذهبهم .
ومنهم من يرى أنه الدين كما يراها رجال الالهوت أمثال :أمبروز والقديس
أوغسطين وتوما األكويني.
واإلتجاه الثاني :يعيدها الى ذات اإلنسان وأنصار هذا اإلتجاه يختلفون فمنهم من يرى
أنه العقل ،أمثال :صمويل كالرك ،ووالستون ومن ذهب مذهبهم .
ومنهم من يرى أنه الوجدان :الحاسة الخلقية أمثال :هاتشيسون وآدم سميث وجان
جاك روسو.
ومنهم من يرى أنه دافع المنفعة فاإلنسان بطبيعته يسعى الى ما يلذه ويتجنب ما يؤلمه
وقد وجد اإلنسان عن طريق التجربة أن األخالق تحقق له السعادة وتبعده عن
التعاسة ،ولهذا فالدافع األساسي لها هو المنفعة الذي يتكون عنده عن طريق
التجربة .
أما اإلسالم فيعتبر هللا مصدر اإللزام في الدرجة األولى فهو الذي خلق اإلنسان
ووضع النظام األخالقي له وهو الذي يعلم الظاهر والباطن له والسر والعلن ( إنه
يعلم الجهر وما يخفى) .وهو يراقب الناس في سلوكهم وأعمالهم (إن ربك
لبالمرصاد) .
وأنه يسجل كل شيء ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء
أحصيناه في إمام مبين ).
وجعل اإلسالم سلطة الجماعة ملزمة في الدرجة الثانية .
وبذلك اعتبر المجتمع مسؤوالً عن انحراف األفراد .ألن فساد بعض األفراد قد يؤدي
الى فساد المجتمع ( واتقوا فتنة ال تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
ولهذا أمر الجماعة بعقاب المنحرفين ( الزانية والزاني فاجلدوا )
وباإلضافة الى العقوبة السابقة أسقط قيمتهم األدبية فال تقبل شهادتهم وال يوثق
بكالمهم ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء .) .....
ولهذا قرر اإلسالم مبدأ األمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتبر القيام بذلك من
عزائم األمور ( يا بني أقم الصالة وامر بالمعروف وانه عن المنكر . ) ......
إن إعطاء سلطة اإللزام للجماعة من األهمية بمكان ذلك أن من الناس من يكون
وازعهم اإليماني ضعيفا ً فال يخافون من هللا خوفهم من الناس .فلو أنهم تركوا
وشانهم لبثوا الفساد في المجتمع .
ثم إن هذا اإللزام محسوس مادي يناسب جميع الناس .
وإن كان السلوك األخالقي الذي يتم تحت سلطان إلزام الجماعة أقل قيمة من السلوك
الذي يتم بدافع اإليمان باهلل تعالى .
ومهما يكن من أمر فمن األهمية بمكان أن تطبق الجماعة قوانينها .
ومسؤولية الجماعة عن انحراف األفراد ترجع الى عدم إنكارها السلوك المنحرف،
مع إمكان إنكارها إذ أن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على رضاها لوقوعه .
ولهذا متى زاد الفساد في المجتمع فإن هللا ينزل عليه البالء الذي يعم الفاسدين
والعصاة وغير العصاة ألنهم رضوا بالفساد والعصيان وإن كان مقدار مسؤوليتهم
أقل من مسؤولية أولئك .
الى جانب اعتداد اإلسالم بالجماعة يعتد اإلسالم بالعقل واإلدراك :ألن اإلنسان عندما
يدرك عادة أن عاقبة فعله ستكون أليمة فإنه يتجنبه وإذا كانت سارة فإنه يفعله .
كذلك إذا رأى خيراً من سلوك التزم به ،اما إذا كان األمر على خالف ذلك فإنه يتركه
.
ولما كانت األخالق وسيلة الخير في الدنيا واآلخرة في حين أن التجرد منها وسيلة
الشر فإن العاقل يلتزم بها عقالً .
ولهذا سيقول أهل النار يوم القيامة ( لو كنا نسمع أونعقل ما كنا في اصحاب السعير )
.
ومن مصادر اإللزام في نظر اإلسالم الضمير الخلقي .
ألن اإلنسان فيه حاسة أخالقية يميز بها ما هو حسن وجميل من سلوك مما هو قبيح
وضار .
ومن ثم تطمئن النفس الى السلوك الجميل وتقشعر من السلوك القبيح .
ومن ثم يدفعه الى اإللتزام باألول واإلبتعاد عن الثاني مصداق قول الرسول صلى هللا
عليه وسلم( :البر ما أطمأن اليه القلب واطمأنت اليه النفس واإلثم ما حاك في
القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس ) .
وقال هللا تعالى( :إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) (هللا
أنزل أحسن الحديث كتابا ً متشابها ً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم
تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر هللا ) .
ثم يعتد اإلسالم أخيراً بالدوافع النفعية كعامل من عوامل االلزام واإللتزام بالقيم
األخالقية ألن اإلنسان بطبيعته يحب الخير والنفع لنفسه وال بد منه لحاجته
األساسية اليه .
ومن هنا يشوق الناس الى األعمال الصالحات ويعدهم بالمكافآت الجزيلة عليها في
الدنيا واألخرة وينذر المسيئين من عاقبة سيئاتهم ( .أم حسب الذين اجترحوا
السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم) .
(فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم) ( .وعد هللا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في األرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن
لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ً ).
وهكذا نجد كثيراً من النصوص التي تستميل القلوب وتدفعها الى األخالق
الطيبة وسوف نذكر مزيداً منها .
ومن هذا كله نتبين أن اإلسالم ال يكتفي بعامل واحد لإللزام بل يستخدم
عوامل متعددة وهذا أمر يناسب سيكولوجية الفروق الفردية بين الناس
نظراً الى أن هؤالء الناس ليسوا سواء في درجة التأثر بتلك الدوافع
الى السلوك األخالقي .
ولما لم تكن األعمال األخالقية في مستوى واحد من القيمة .ولما كانت
قيمة الشيء تعد أحد الدوافع لإللتزام به فمن الواجب أن نبحث عن
مجاالت اإللتزام األخالقي ودرجاته .
مجاالت اإللتزام األخالقي ودرجاته
إن مجاالت اإللتزام األخالقي هي مجاالت الخير كله .
فاإلنسان ملزم بعمل الخير وتجنب الشر في كل وقت وفي كل مكان .
غير أن الخيرات كثيرة فال يستطيع اإلنسان عمل الخيرات كلها طوالً وعرضا ً إذ أن
قدراته محدودة وزمنه كذلك محدود .
إذن ال بد من أن تكون هناك درجات في اإللزام ومراتب في األعمال األخالقية .
حتى ال يقف اإلنسان موقف الحيرة في فعل بعضها وترك بعضها اآلخر ،وخاصة إذا
كان هناك تعارض وإذا أدى فعل بعضها الى ترك بعضها اآلخر ،لذا نرى
اإلسالم رتب األعمال األخالقية الى الزم وألزم .
فألزمها فرض العين ثم الكفاية ثم الواجب ثم السنة المؤكدة ثم السنة غير المؤكدة ثم
النوافل وأخيراً الكماليات.
كذلك رتب المحرمات أو الشرور الى كبائر وصغائر ثم المكروهات وخالف األولى
.
ثم قسمها من جهة اخرى من حيث الواجبات المحدودة وغير المحدودة والمؤقته
وغير المؤقتة .
وحدد مسافة بين الخير والشر ال هي خير وال هي شر وهي المباحات وأحد طرفيها
متصل بالخير واآلخر متصل بالشر وأمر الناس باإلتجاه نحو الخير واإلبتعاد عن
الشر ألن الذي يرتع حول حدود الشر يوشك أن يقع فيه .
فقد شبه الرسول صلى هللا عليه وسلم موقف اإلنسان من حدود المحرمات بموقف
الراعي الذي يرعى حول الحمى فإنه يوشك أن يتجاوز حدوده إذا اقترب منها
فقال( :الحالل بين والحرام بين وبينهما مشتبهات ال يعملها كثير من الناس فمن
اتقى الشبهات فقد أستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول
الحمى يوشك أن يواقعه أال وإن لكل ملك حمى أال وإن حمى هللا في أرضه
محارمه) .وقال( :دع ما يريبك إال ما ال يريبك).
والحقيقة إن معالجة اإلسالم لهذه النقطة معالجة قيمة.
وبذلك أنقذ اإلنسان من الحيرة من الناحية التشريعية ومن الناحية العملية .
كذلك لم يدع الى اإللتزام ببعض الخيرات وعدم اإللتزام بالبعض اآلخر ،بل إن
الخيرات كلها الزمة في رأيه.
لكن لما كانت هذه الخيرات غير متناهية من حيث أنواعها ومن حيث درجاتها .ولما
كان الناس يختلفون من حيث القدرات واإلمكانيات المادية والمعنوية والميول
والرغبات فقد حدد األعمال الخلقية من ناحية نوعية األعمال التي تلزم في الدرجة
األولى والتي تكون مشتركة بين جميع المكلفين وعلى أساسها بين اإلنسان
األخالقي والالخالقي ،فهو المعيار األول لوزن الناس ثم إنها تتالئم مع جميع
الناس .
وهي الفروض من الناحية اإليجابية والكبائر من الناحية السلبية ،ثما يلي ذلك في كل
ناحية المراتب التي ذكرناها سابقا ً .
وهذه من ميزات األخالق اإلسالمية التي تتميز بها على االخالق الفلسفية .
فليس هناك فلسفة أخالقية نظمت وبينت األعمال األخالقية وموضوعات الخير
األخالقي ودرجات اإللتزام بها كما بينها وفصلها اإلسالم .
فهذا من الناحية العرضية اما من الناحية الطولية فإن اإلسالم فتح أمام الراغبين في
اإلزدياد من الخيرات والفضيلة والمعامالت والتنافس فيها (فاستبقوا الخيرات) .
(وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) .فاألفضل أن يواصل المؤمن اإلنفاق على
الفقراء والمؤسسات الخيرية بعد دفع القدر المفروض عليه من الزكاة .وهذه هي
الفضيلة بمعنى الكلمة .
أما الزكاة فهي ضريبة ال بد منها وال يدل أداؤها على حبه للفضيلة واإلحسان إذا
اقتصر عليها مع إمكانية أن يزيد فيها ،وإن كانت درجة المسؤولية والجزاء
تختلف فيما بينهم .غير أن هذه االعمال الفاضلة مشروطة أيضا ً بأن ال تؤدي
مواصلتها الى إهمال الواجبات األخرى وأن ال تؤدي كذلك الى نقض قوانين
الحياة .
فمثالً ال ينبغي أن ينفق اإلنسان جميع ماله وبالتالي ال يجد مأكالً وال مأوى ( .وال
تجعل يدك مغلولة الى عنقك وال تبسطها كل البسط فتقعد ملوما ً محسوراً).
وكذلك ال يجوز لإلنسان أن ينقطع للصوم حتى يترك الكسب أو حتى يموت.
وكذلك ال ينبغي أن تكون لفضيلة ما تجعله يهمل الواجبات األخرى .
ولذا نهى صلى هللا عليه وسلم بعض الذين عزموا على مواصلة بعض العبادات فقال
صلى هللا عليه وسلم ( :صم وافطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا ً وإن لعينيك
عليك حقا ً وإن لزوجك عليك حقا ً وإن لزورك عليك حقا ً) ،قالها لعبد هللا بن
عمرو بن العاص .
إذن فنجد في اإلعمال اإلخالقية اإليجابية ثالث مراتب تحدها:
األولى :هي الحد األدنى من الواجب وهو الذي يجب أن يقوم به كل واحد .
الثانية :هي مساحة مفتوحة لكل واحد للمسابقة في اإلزدياد منها.
الثالثة :هي الحد األقصى الذي ينهى اإلنسان عن تجاوزه بمخالفة قوانين الحياة
الضرورية .
ويمتاز اإللزام األخالقي في اإلسالم بخصائص هامة ال توجد بمثل هذا الوضوح في
الفلسفات األخالقية األخرى وهي:
خصائص اإللزام األخالقي
.1اإللزام بقدر اإلستطاعة :راعى اإلسالم استطاعة اإلنسان في إلزامه
بالقوانين األخالقية.
ولهذا لم يكلفه فوق طاقته ( ال يكلف هللا نفسا ً إال وسعها) (فاتقوا هللا ما
استطعتم) .وهذا المبدأ كما تقتضيه األخالق السليمة تقتضيه كذلك
العدالة اإللهية .إذ ال يمكن أن تكون األخالق صالحة للتطبيق إال
بهذا الشرط.
وليس من العدالة كذلك تكليف المرء ما ال يطيقه بل هو ظلم وهللا تعالى
قد وصف نفسه بالعدالة ونفى عن نفسه الظلم ( إن هللا ال يظلم الناس
مثقال ذرة) (إن هللا ال يظلم الناس شيئا ً ولكن الناس أنفسهم يظلمون)
(وتمت كلمة ربك صدقا ً وعدالً ال مبدل لكلماته) .
.2سهولة التطبيق:
وليست اإلخالق اإلسالمية متوافقة مع قدرات الناس واستطاعتهم فحسب
بل إنها أسهل مما يطيقونه (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)
(ربنا وال تحملنا ما ال طاقة لنا به) .نرى من هاتين اآليتين أن هللا
لم يعفنا فقط مما ال طاقة لنا به بل أعفانا مما نطيق بشق األنفس .
ألنه تعالى لم يضع نظامه لنا ليحرجنا ويضعنا في عسر وضيق من
الحياة بل أراد هدايتنا وتيسير السبل أمامنا للوصول الى الحياة
السعيدة (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (يريد هللا بكم اليسر وال
يريد بكم العسر).
وهنا تظهر حكمة هللا البالغة في وضعه النظام في هذه الصورة إذ أنه لو
كلفنا بما نطيق بشق األنفس لما أمكن مسايرته الى األبد .
فلدوام نظام معين في الحياة العملية وليبقى صالحا ً زمانيا ً ومكانيا ً ال ينبغي أن يستنفذ
تطبيقه طاقة اإلنسان كلها ألن بذل الطاقة بصفة مستمرة ال بد من أن يؤدي الى
اإلرهاق والحياة ال تطاق بإرهاق مستمر ،ومن ثم ال بد أن يبوء مثل ذلك النظام
بالفشل .
ومن هنا تظهر ميزة رسالة اإلسالم من هذه الناحية على الرساالت السابقة حيث أنها
لم تأت بقوانين استثنائية قاهرة كعقاب الهي على األمة كلها كما حدث في
الرساالت السابقة التي تحدث عنها القرآن ( ربنا وال تحمل علينا إصراً كما حملته
على الذين من قبلنا) (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون
الزكاة والذين هم بأياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي األمي الذي يجدونه
مكتوبا ً عندهم في التوراة واإلنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم واألغالل التي كانت
عليهم) (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ).
واإلصر وتشديد األحكام في الرساالت السابقة كانت حالة استثنائية ألن رساالت هللا
كلها كانت في جوهرها واحدة وتهدف الى غاية واحدة مصداق قوله تعالى ( شرع
لكم من الدين ما وصى به نوحا ً والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه ).
وكان األمر يقتضي اال يكون في اإلسالم شيء من تلك القوانين االستثنائية ألنه خاتم
الرساالت من جهة ،وألنه عام لكل األمم فكان العدل اإللهي ال يقتضي عقاب
األمم األخرى بظلم بعضها .
ثم وجود مثل تلك القوانين في اإلسالم ال تجعله صالحا ً للتطبيق لكل الناس في كل
زمان ومكان.
وكما يمتاز اإلسالم على الرساالت األخرى يمتاز كذلك على بعض الفلسفات األخرى
كالفسفة األخالقية البرهمية والكانطية مثالً التي تتسم بالقسوة وعدم مراعاة
الطبيعة اإلنسانية في الظروف المختلفة .
.3مراعاة الحاالت اإلستثنائية:
تظهر هذه المراعاة في تخفيف اإلسالم عن المكلفين بعض التكاليف أو إعفائهم منها
فترى أنه قد خفف عن المسافر الصالة وسمح له بتأخير الصالة وسمح له
بتأخير الصيام وبأداء الصالة على الراحلة .وأعفى العجزة والضعفاء من
الجهاد ( ليس على األعمى حرج وال على األعرج حرج).
ونرى أنه استبدل اإللتزام بآخر عند الضرورة كاستبدال الوضوء بالتيمم حتى أنه
أباح المحرم عند الضروريات فللجائع إذا خاف على نفسه الموت أن يأكل من
مال الغير جبراً ،وله أن يقاتل المستقى إذا امتنع عن سقايته.
بل سمح للمسلم أن يكفر بلسانه إذا أكره عليه (من كفر باهلل بعد ايمانه إال من أكره
وقلبه مطمئن باإليمان .) ......
ألن اإلسالم ال يهتم بالمظاهر اهتمامه بالباطن (إن هللا ال ينظر الى صوركم وأموالكم
ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم ).
وأباح الكذب في المعاملة في بعض الحاالت إذا كان يؤدي الى الخير العام أو ينقذ
نفس اإلنسان البريء من اإلهدار (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً
وينمي خيراً) وقال صلى هللا عليه وسلم( :الكذب كله على ابن آدم إال في ثالث
خصال :رجل كذب على امرأته ليرضيها ورجل كذب في الحرب فإن الحرب
خدعة ورجل كذب بين المسلمين ليصلح) .والكذب بين الزوجين ليس اإلخبار بما
يخالف الحقيقة فيما مضى وإنما هو التودد وبذل الوعود لتحقيقها في المستقبل عند
تيسير األمور عندما تطلب منه أموراً وهو غير قادر على تحقيقها أو يقول لها أنه
يحبها كثيراً إذا اتهمته بأنه ال يحبها .
وال يكون اإلنسان بذلك كذاباً ،فالكذاب هو الذي يتخذ الكذب وسيلة لتحقيق مآربه
وهو غير مباح أخالقيا ً ولهذا قيل للرسول صلى هللا عليه وسلم ( أو يكون المؤمن
جباناً؟ فقال :نعم فقيل أويكون المؤمن بخيالً؟ فقال :نعم فقيل أويكون المؤمن
كذاباً؟ فقال :ال ).
كما ال يسمى اإلنسان الذي يسرق طعاما ً مرة ليأكل في حالة المخمصة سارقا ً .
فالسارق هو الذي يتخذ السرقة وسيلة للمعيشة .والكذب في حالة اإلصالح قاصر
على الكلمات الطيبة التي يسندها الى أحد الطرفين المتنازعين أو كليهما إذ من
شأنها أن تؤلف بين القلوب وتزيل الضغائن .وكذلك الحرب إذا كان الكذب يؤدي
الى إنقاذ الجيش أو إنقاذ نفسه وال يمكن بغير ذلك .
ومع ذلك فمثل هذه الكذب رخصة وليس عزيمة وهو سلوك استثنائي بحاالت
الضرورة .
وفي هذه النقطة توجد بعض االمور التي تحتاج الى توضيح :
األمر األول :أن هذه الحاالت اإلستثنائية من القواعد األخالقية العامة ال تعتبر جزءاً
من األخالق وإنما هي ضرورة والضرورات تبيح المحظورات .
ولهذا ال ينبغي اتخاذها وسائل لبلوغ المآرب وتحقيق األهداف كلما وجد المرء شيئا ً
من القسر في استخدام الطرق األخالقية السليمة متذرعا ً في ذلك بالصعوبة .وإال
فشا الكذب وزالت الثقة في المعامالت .
ولهذا يجب اإلقتصار على ما اقتصر عليه اإلسالم وأن يكون ذلك مشروطا ً بعدم
إمكانية تحقيقه اال بذلك .
إذ أن القاعدة األساسية في األخالق اإلسالمية هي تحقيق الخير عن طريق الخير ال
عن طريق الشر ،فالعمل األخالقي ال يأخذ موضعه من األخالق إال إذا تم بطريق
أخالقي .
هذا الحل من اإلسالم لمشلكة اإلستثناء من القاعدة األخالقية بتلك الصورة يعتبر حالً
وسطا ً في التفكير األخالقي ،ذلك إن اإلنسان قد يقع في مأزق ليس له فيه مخرج
بطريق أخالقي ألن الشر قد أحاط به وال حيلة له بدفعه عن طريق الخير فالقاعدة
األساسية هي دفعه بالخير ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه
ولي حميم) .
وهكذا نجد أن الغاية قد تبرر الوسيلة لكن هذه القاعدة استثنائية أيضاً ،فالقاعدة
األخالقية األساسية هي التوفيق بين الوسيلة والغاية في الخيرية .
وإذا ألقينا نظرة عابره على اإلتجاهات األخالقية في هذه النقطة وجدنا فيها اتجاهين :
أولهما :ال يبيح اإلستثاء من القاعدة األخالقية على أي حال ولو أدى التمسك باألخالق
الى هالك إنسان بريء وهو اتجاه كانط المثالي .
وثانيهما :يعتبر األهداف والغايات هي األساس وإنها تبرر الوسيلة تحققها يعد عمالً
أخالقيا ً وهي اإلتحاه النفعي في األخالق بصفة عامة والشيوعي بصفة خاصة .
أما اإلسالم فلم يقف مع اإلتجاه األول على طول الخط وال مع اإلتجاه الثاني .غير أنه
يجب أن ننبه أن اإلسالم إذا أجاز التلفظ بالكفر أو الخروج على قاعدة الصدق
بالكذب فهذا يعتبر رخصة وليس عزيمة .واإلنسان إذا تمسك بالعزيمة مع وجود
الرخصة يعتبر هذه فضيلة منه وال يكون إثما ً إذا تمسك بالرخصة .
وقد روى (أن عينا ً لمسيلمة الكذاب أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى هللا عليه
وسلم فذهبوا بهما الى مسيلمة فقال ألحدهما :أتشهد أن محمداً رسول هللا؟ قال :
نعم قال أتشهد أني رسول هللا؟ قال :نعم ،فخلى عنه ،وقال لآلخر :أتشهر أن
محمداً رسول هللا؟ قال :نعم .وتشهد أني رسول هللا قال :أنا أصم ال أسمع فعذبه
وضرب عنقه فجاء الى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال هلكت ،قال :وما أهلكك؟
فذكر الحديث ،فقال :أما صاحبك فقد أخذ بالثقة ،وفي رواية فقد مضى على إيمانه
وأما انت فقد أخذت بالرخصة ،عالم أنت عليه الساعة؟ قال :أشهد أنك رسول
هللا ،قال :أنت على ما أنت عليه) .
وقال تعالى( :فمن اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه) .وقال( :فمن اضطر في
مخمصة غير متجانف إلثم فإن هللا غفور رحيم) وقال (:وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إال ما اضطررتم اليه).
وكما يفهم من نص اآليات السابقة أن اإلستثناء لم يسقط حرمة المحظورات وإنما
وعد هللا بأنه سوف ال يؤاخذ على ارتكابها ؟
لذا قال الفقهاء إذا تمسك بالعزيمة حتى الموت فإنه يموت شهيداً .ألن هللا نفى الجناح
عن التمسك بالرخصة ولم يشجع عليها ( وإذا ضربتم في األرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصالة ) ..وإذا كان الفقهاء قد اختلفوا بين اإلتمام وبين
القصر في الصالة من حيث األفضلية بناء على قول الرسول صلى هللا عليه وسلم
عن الرخصة( :صدقة تصدق هللا بها عليكم فاقبلوا صدقته) وقوله ( إن هللا يحب
أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته).
وبنا ًء على اآليات السابقة فإن األمر يختلف بين الواجبات األخالقية بالنسبة الى هللا
وواجبات الناس نحوه .
وبالنسبة الى الناس ثم بين نوعي الواجبات في كال الطرفين .
فاألمر بالنسبة الى العقيدة يختلف عنه بالنسبة الى الصالة مثال ً .
ثم يختلف أخيراً بالنسبة الى التعامل اإلجتماعي .
فأحيانا ً يكون التمسك بالرخصة فضيلة إذا كان في ذلك إيثار في حق الغير .
ولهذا ال ينبغي أن يقدر بين ما يبذله اإلنسان في سبيل التمسك بالقيمة وبين القيمة
نفسها .
فالمحافظة على النفس أغلى من المحافظة على المال فليس من األفضل إضاعة النفس
في سبيل المحافظة على حرمة مال الغير .
فإذا رأى اإلنسان نفسه سوف يموت إذا لم يسرق ولم يأكل مال الغير فال شك أن
التعدي على حرمة المال أهون من التعدي على حرمة النفس .
ولهذا قال األصوليون :إرتكاب أهون الشرين أولى إذا كان ال مناص من إرتكاب
أحدهما .
األمر الثاني :
إن اإلسالم راعى هذه اإلستثناءات الفردية بين الناس في مختلف الظروف .
إذ أن بعض الناس قد ال يستطيع تحمل تلك المواقف الحرجة الشديدة تحت وطأة
الخوف أو الجوع أو العاطفة فيقدم على ارتكاب الحرام وكل إنسان يعمل حسب
استطاعته وهو يعرف نفسه عند اإلقدام على الرخصة مدى اضطراره اليها ( بل
اإلنسان على نفسه بصيرة ) .
وإن هللا سيحاسبه بناء على معرفته لنفس عبده في حالة االضطرار .
ولهذا ال يحق للناس أن يرتكبوا المحرمات لمجرد بعض الصعوبات التي يستشعرونها
إزاء القيام باألعمال األخالقية وال تنفع معاذيرهم ألن هللا يعلم مدى اضطرارهم .
فعلى اإلنسان أن ال يقدم على األعمال التي ال يوافق عليها ضميره ولو حاول أن يلقى
المعاذير ( .استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك).
االمر الثالث:
إن مراعاة اإلسالم لهذه األمور تدل على مرونه التشريع اإلسالمي وتضفي عليه
صفة صالحيته لكل الناس في مختلف الظروف وفي مختلف األزمنة واألمكنة .
ألن هذه القوة القاهرة التي تكره الناس أو بعضهم على الخروج على القوانين
األخالقية ترجع الى اختالف طبائع الناس أو الى الطبيعة نفسها أو الى تطور
الحياة أو الى الظروف الطارئة .
فعن طريق قانون اإلستثناء نستطيع مواجهة تلك الظروف ونحل كثيراً من المشكالت
الطارئة .ولكن يجب أن ال تبقى هذه التطبيقات العلمية لقاعدة اإلستثناء العامة
كقوانين جوهرية في صميم المبادىء األخالقية .
هنا يقول اإلمام الشاطبي :إن العزيمة مصلحة كلية عالمية والرخصة مصلحة
شخصية جزيئة وقتية وال ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية .
ثم إن الرخصة ارتكاب أمر غير مشروع أو حرام وال يكون ارتكاب حرام لضرورة
عمالً أخالقيا ً وال يمكن أن يعد مبداً أخالقيا ً في النظام األخالقي
.4قوة اإللزام :
عرفنا فيما سبق عناصر اإللزام وقسمناها الى قسمين :
األول :يرجع الى العناصر الخارجية مثل الوحي والمجتمع وقوانين الطبيعة .
الثاني :يرجع الى العناصر الداخلية ويشمل العقل والضمير الخلقي .
وهذه العناصر مجتمعة أقوى سلطة إلزامية في األخالق اإلسالمية .
هذا الى أن اإلسالم قد ضاعف هذه القوة بما وعد به من الجزاء الجزيل للمتمسك
بالقيم األخالقية والعقاب الشديد للمنحرف والمستهتر .
ثم إنه وجه اإلنسان بصورة مستمرة نحو التسامي بإثارة الدوافع واإلستعدادات
المغروسة في الطبيعة البشرية لتتغلب العناصر اإلنسانية الطيبة على الغرائز
الحيوانية الجامحة .
وبذلك يكون اإلسالم قد اعتمد في إلزامه األخالقي على جميع العناصر التي يمكن أن
تكون عامل إلزام بصورة من الصور بخالف المذاهب األخالقية األخرى ،فإن
كل مذهب منها اعتمد على عنصر أو عنصرين فقط ،مثل النفع والشرف وما
الى ذلك .
ثم إن اإلعتماد على عدة عناصر في اإللزام واإللتزام يتناسب مع سيكولوجية الفروق
الفردية في الطبيعة البشرية ،ألن الناس عادة يختلفون في اإللتزام بعناصر
اإللزام المختلفة .
المسؤولية األخالقية
تعد هذه المسألة نتيجة طبيعية للمسألة السابقة .
فمدى المسؤولية يتحدد بمدى اإللزام واإللتزام .
فالصفات والخصائص هناك تؤثر في الصفات والخصائص هنا .ألن اإللزام واإللتزام
يسبقان على المسؤولية من حيث الوجود والمسؤولية مبنية عليهما معا ً .
لكن لما كانت معرفة السابق ال تكفي لمعرفة الالحق .وإن كان من الممكن التنبؤ عن
طريقها ببعض المعالم العامة فإنه يلزم هنا أن ندرس المسؤولية األخالقية دراسة
مفصلة وتحديد مجاالتها تحديداً كامالً .
ويتطلب تحديد المسؤولية من جميع الجوانب القيام أوالً بتحديد معناها ثم بيان األساس
الذي تقوم عليه ثم مجاالت المسؤولية ومراتبها .
اما معناها :فهو تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقرارته واختياراته
العملية من الناحية االيجابية والسلبية أمام هللا في الدرجة األولى وامام
ضميره في الدرجة الثانية وأمام المجتمع في الدرجة الثالثة
وسوف يتضح ما يقصد من التعريف بالتحديد خالل عرض هذا
الموضوع بصورة متكاملة .
أما األساس الذي تقوم عليه المسؤولية فهو أهلية الشخص المسؤول للقيام
بالمسؤوليات التي يتحملها ويلتزم بها سواء كان بالزام أو بالتزام .
وهذا يقتضي توفر الشروط اآلتية في الشخص المسؤول وهي :
.1
.2
.3
أن يكون واعيا ً لطبيعة ذاته وسلوكه وأهدافه ونتائج تصرفاته مما يعود على
نفسه أو على غيره من نفع أو ضرر عاجالً أو آجالً .
وأن تكون له حرية اإلرادة واإلختيار والتصرف فيما يختاره .
وأن يكون مستطيعا ً للقيام بمسؤولياته .
وهذه الشروط مجتمعة تعد أساس المسؤولية وال يمكن اإلستغناء عن أي واحد منها .
ذلك ان المسؤول إذا لم يكن واعيا ً بذاته ومقاصده من أفعاله وما سينجم عنها فال
معنى لجعله مسؤوالً عن تصرفاته ،ولهذا لم يجعل اإلسالم الحيوانات مسؤولة
ولم يجعل كذلك األطفال الصغار مسؤولين عن تصرفاتهم .
وكذلك ما لم يكن المرء حراً في إرادته واختياره وتصرفاته فال معنى عندئذ لجعله
مسؤوالً عن اعماله .
ومن الظلم تكليف إنسان بأعمال ال يستطيع تحمل أعبائها والقيام بها .
وإذا كانت الشروط ضرورية فهي ضرورية أيضا ً من حيث اتصال بعضها ببعض
فإنه ال يعقل أن يحاسب كائن عن عمل ال يستطيع اختيار غيره أو يستطيع تنفيذ
ما يختاره أو كان ال يعرف طبيعة االعمال المختارة أهي خير أم شر وإنه مطالب
بالخير ومنهي عن الشر .
مجال المسؤولية وأقسامها وأبعادها
أما مجال المسؤولية فالحياة كلها مجال المسؤولية.
والمسؤولية عموما تنقسم الى قسمين -1 :مسؤولية فردية -2مسؤولية غيرية أو
اجتماعية .
أما المسؤولية األولى (الفردية) فلها مجاالن :أ -المجال الداخلي ب -المجال الخارجي
الظاهري
فاألول مسؤولية اإلرادة والقصد والتصميم .
فليس من الضروري العمل المادي الظاهري ليكون اإلنسان مسؤالً بل إن العزم على
فعل شيء كاف لتحمل مسؤوليته إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر ( وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به هللا ) .
ولهذا فمن عزم على فعل شيء ثم لم يستطع تنفيذه لمانع خارجي أو لجهله بطريق
التنفيذ يكون كأنه قد نفذه بالفعل .
وكذلك إذا ترك فعالً باإلرادة ،فإذا ترك مثالً الحرام لدافع أو لعزم خوفا ً من هللا
وإطاعة أمره يكتب له حسنة ويعد ذلك له عمال خيراً .ألن الترك فعل أيضاً،
فالفعل إما يكون إيجابا ً أو سلبا ً مصداق ذلك قول الرسول صلى هللا عليه وسلم
راويا ً عن ربه( :إن هللا عزوجل كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم
بحسنة فلم يعملها كتبها هللا له حسنة كاملة ،فإن هم بها وعملها كتبها هللا عنده
عشر حسنات الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة ،ومن هم بسيئة فلم يعملها
كتبها هللا له حسنة كاملة فإن هو هم بها وعملها كتبها هللا سيئة واحدة) .
وقال أيضا ً راويا عن ربه ( :إذا اراد عبدي أن يعمل سيئة فال تكتبوها حتى يعملها
فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من اجلي فاكتبوها له حسنة .وإذا أراد أن
يعمل حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر امثالها الى سبعمائة ضعف ) .
ولكن ال يجب أن نفهم من هذا أن الذي أراد السيئة وأصر عليها ولم يستطع ولم
تنفيذها لمانع ما أنه يعفى من المسؤولية فهناك فرق بين نية لم تحصل محاولة
تنفيذها ونية حصلت محاولة ولم تنجح ،ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :إذا
التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) وقال تعالى( :قل إنما حرم
ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن واإلثم والبغي) .واإلثم الباطن هو النية على
فعل الجريمة .
وال يدخل في نطاق هذه المسؤولية ما يدخل في قلب اإلنسان من خطرات الخير
ووساوس الشر أو بتعبير آخر حديث النفس ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم عندما
أسرع الصحابة بعد سماع اآلية السابقة اليه وقالوا :أنكون مسؤولين حتى وسوسة
النفس ( :إن هللا تجاوز عن أمتي عما وسوست أو حدثت به نفسها ما لم تعمل به
أو تتكلم) ونزل قول هللا تعالى ( :ال يكلف هللا نفسا ً إال وسعها لها ما كسبت وعليها
ما اكتسبت) ألن اإلنسان ال يستطيع دفع هذه الوساوس وال تدخل في نطاق اإلرادة
.
ونرى هنا أن اإلسالم يختلف في نظرته الى المسؤولية عن كثير من المذاهب
األخالقية وعن نظرة القوانين الوضعية ذلك أن نظرة تلك المذاهب والقوانين ال
تجعل اإلرادة الداخلية ما لم تنفذ في العمل الخارجي مجال المسؤولية إطالقا ً ).
وكما تختلف عن نظرة بعض الشرائع السابقة لإلسالم التي كانت تعتبر أن اإلنسان
مسؤوال عما تتحدث به نفسه كما ذلك من آخر اآلية السابقة( ربنا وال تحمل علينا
إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا وال تحملنا ما ال طاقة لنا به ).
أما المجال الظاهري للمسؤولية فهو السلوك المادي المحسوس سواء أكان كالما ً أو
فعالً بشرط أن يكون ناتجا ً عن قصد واختيار ( ال يؤاخذكم هللا باللغو ) ......وفي
آية اخرى ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) .وقال صلى هللا عليه وسلم( :إنما
األعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) .
وبناء على ذلك فال يكون اإلنسان مسؤوالً عن سلوكه الناتج عن إكراه واضطرار (
ومن يكرههن فإن هللا من بعد إكراههن لغفور رحيم)( .فمن اضطر غير باغ وال
عاد فإن هللا غفور رحيم).
وكذلك السلوك الناتج عن الخطأ والنسيان( :ربنا ال تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ).
ويدخل في هذا المجال أيضا ً سلوك النائم والمجنون فقد قال الرسول صلى هللا
عليه وسلم( :رفع القلم عن ثالثة :عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ
وعن الصبي حتى يكبر ).
أبعاد قياس المسؤولية
ثم إن السلوك المسؤول عنه له بعدان -1البعد المادي -2البعد النفسي أو الوجداني
ففي البعد األول (المادي) :ننظر الى مدى ما يترتب على السلوك فعالً كان أو كالما ً
من نفع أو ضرر ومن آثار تتبعه وتنشأ عنه مهما طال الزمن ألن الفعل يصبح
كائنا ً موجوداً أو مولوداً لإلنسان قد يعيش أكثر من صاحبه .
ومن هنا قال صلى هللا عليه وسلم( من سن في اإلسالم سنة حسنة فعمل بها بعده كتب
له مثل أجر من عمل بها وال ينقص من اجورهم شيء ،ومن سن في اإلسالم سنة
سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها وال ينقص من أوزارهم
شيء ).
وقال أيضا ً( :من دعا الى هدى كان له من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك
من أجورهم شيئاً ،ومن دعا الى ضاللة كان عليه من اإلثم مثل آثام من تبعه ال
ينقص ذلك من آثامهم شيئا ً) .وقال( :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث :إال
من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .وقال تعالى( :إنا نحن
نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين).
وفي البعد الثاني (الوجداني) :ننظر في قياس المسؤولية الى مدى ما يتخذ الفعل من
القداسة أو البشاعة في أعماق قلوب الناس فالقتل مثالً أبشع من السرقة.
والتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن اإلسالم أقدس من التضحية بالمال من أجل
نفس الغرض ،ثم إن العمل نفسه يعتبر بحسب الصورة التي يتم فيها ،فالقتل عن
طريق تقطيع األجزاء أبشع من القتل ضربا ً بالرصاص والحرق بالنار أبشع من
الطعن بالسكين .ولهذا قال الرسول صلى هللا عليه وسلم( :إن هللا كتب اإلحسان
على كل شيء فإذا قتلتم فإحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فإحسنوا الذبح وليحد أحدكم
شفرته وليرح ذبيحته) .ونهى صلى هللا عليه وسلم عن القتل بالنار والقتل بالمثلة.
أيا ً كان المقتول إنسانا ً أو حيواناً ،وكذلك اإلستشهاد بعد القيام بأعمال بطولية من
ثبات وشجاعة في أشد األزمات أكثر قداسة من مجرد اإلستشهاد دون إبداء ألي
أعمال بطولية وهكذا .
وهكذا قسم اإلسالم األعمال األخالقية بحسب المسؤوليات .
فقسم الواجبات الى واجب عيني وكفائي ومندوب وقسم المنهيات الى كبائر وصغائر
والى محرم ومكروه ،فقال تعالى( :إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنه نكفر
عنكم سيئاتكم).
نرى إذن ليست المسؤولية كلها في درجة واحدة ال من حيث النفع والضرر وال من
حيث ما يثير النفوس من تقبل واشمئزاز وال من حيث الموضوعات التي تتعلق
بها .
ومن حيث نستطيع تحديد مجال المسؤوليات الفردية بوجه عام بأن الحياة كلها مجال
المسؤوليات األخالقية واإلنسان مسؤول فيها عن كل تصميم وسلوك صادر عن
قصد واختيار يتصل بحسن أو قبيح وبخير أو شر سواء كان إيجابيا ً أو سلبيا ً.
وكل فرد تتوفر فيه شروط المسؤولية مسؤول عن سلوكه في إطار مجاله الوظيفي
ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته واألمير
راع ومسؤول عن رعيته ،الرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت
زوجها وولده ،فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
ولقد حدد صلى هللا عليه وسلم ما يسأل عنه اإلنسان فقال( :ال تزول قدما ً ابن آدم يوم
القيامة عند ربه حتى يسأل عن خمس :عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أباله
وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم) .هذا هو مجال
مسؤولية الفرد عن نفسه وسلوكه درجة ونوعا ً.
أما القسم الثاني من المسؤولية وهو المسؤولية عن سلوك الغير ،ففي هذه النقطة شيء
من التعقيد والغموض وقد يبدو لبعض الناس أنه أمر غير عادل ،وقد يبدو أيضا ً
أن هذا األمر يتعارض مع بعض المبادىء األخرى التي تقرر مسؤولية اإلنسان
عن نفسه فقط .
ولهذا يحتاج هذه الموضوع الى شيء من التأمل والفحص حتى ينجلي الغموض
ويزول التعارض .
وإذا نظرنا الى اإلتجاهات األخالقية والقانونية في هذه المسألة وجدنا اتجاهين بارزين
.
أحدهما :اتجاه فردي :يرى أن الفرد ليس مسؤوالً إال عن سلوكه الخاص .
وثانيهما :اتجاه جماعي يرى مسؤولية الجماعة عن سلوك األفراد ومسؤولية الفرد
عن سلوك غيره .
وبالرغم من هذا االختالف بين اإلتجاهين من الوجهة النظرية عموما ً ....من الوجهة
العلمية وفي بعض األمور الجزئية .
ذلك أن اإلتجاه األول بالرغم من دعواه الفردية فإنه من الوجهة العملية قد قرر
المسؤولية الغيرية في بعض الجرائم مثل جريمة القتل في بعض الحاالت
والظروف الخاصة .
كما أن اإلتجاه الثاني بالرغم من دعواه الجماعية في المسؤولية فإنه ال يجعل الجماعة
مسؤولة عن كل سلوك الفرد بل يقصرها على بعض األفعال والجرائم.
أما عن وجهة نظر اإلسالم فإنا نجد نصوصا ً تقرر المسؤولية الفردية بصورة مطلقة
كأن الفرد مسؤول عن نفسه فقط فقال تعالى ( :وال تكسب كل نفس إال عليها وال
تزر وازرة وزر أخرى ).
لكن نجد أيضا ً نصوصا ً تقرر مسؤولية الفرد عن سلوك غيره (واتقوا فتنة ال تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن هللا شديد العقاب)( .يا بني أقم الصالة وأمر
بالمعروف وانهى عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم االمور).
وقال صلى هللا عليه وسلم بعد ما تلى ( لعن الذين كفروا من بني اسرائيل عن
لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ،كانوا ال يتناهون
عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) قال ( :كال وهللا لتأمرن بالمعروف
ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه
على الحق قصراً أو ليضربن هللا بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما
لعنهم ).
وقال أيضا ً( :والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن هللا
أن يبعث عليكم عقابا ً منه ثم تدعونه فال يستجاب لكم) .وسألت زينب بنت جحش
النبي صلى هللا عليه وسلم فقالت( :يا رسول هللا :أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال
نعم إذا كثر الخبث) .وقال أيضا ً( :مثل القائم في حدود هللا والواقع فيها كمثل قوم
استهموا على سفينة فصار بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها
إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ً ولم
نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على ايديهم نجوا
ونجوا جميعا ً) .وقال( :من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن
لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان ).
فإذا تأملنا في هذه النصوص وغيرها التي تثبت مسؤولية اإلنسان عن الغير وجدنا أن
هذه المسؤولية باعتبار جزائها المترتب عليها تنقسم الى ثالثة أقسام :
القسم األول :يعاقب المسؤول في الدنيا فقط وذلك إذا ترك مقاومة الفساد ال رغبة في
انتشاره ولكن لضعفه أو لعجزه عن المقاومة ،والعقاب في هذه الحالة إما أن
يرجع الى العقاب الطبيعي ،ألن انتشار الفساد في المجتمع ال بد أن يصيبه إذا عم
وانتشر وال بد من أن يرى الضرر من انتشاره ولهذا قال تعالى( :واتقوا فتنه ال
تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
وإما أن يرجع الى العقاب اإللهي فإن هللا إذا رأى انتشار الفساد في أمة يعاقب هذه
األمة ويعم عقابه الصالحين أيضا ً عقابا ً على تركهم مقاومة الفساد ،أما إذا كانوا
عاجزين عن المقاومة تماما ً فال يعاقبون في اآلخرة مصداق ذلك قوله صلى هللا
عليه وسلم( :إذا أنزل هللا بقوم عذابا ً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على
أعمالهم ) .وللصالح ما أصابه في الدنيا قال صلى هللا عليه وسلم( :إذا خفيت
الخطيئة ال تضر إال صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة ).
القسم الثاني :يعاقب المسؤول في الدنيا واآلخرة وذلك إذا توانى عن مقاومة الفساد
وإلرادته الفساد ،وإن لم يكن مريداً للفساد وتوانى عن المقاومة لكسل أو لعدم
اهتمام فاألول يعاقب لسوء نيته من جهة ولترك أمر هللا في مقاومة الفساد من جهة
أخرى ،وأما الثاني فلتركه الواجب وهو مقاومة الفساد ألنه أمر إلهي وهو واجب
هام من الواجبات األخالقية اإلسالمية وقد قال صلى هللا عليه وسلم( :ما من رجل
يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون عليه فال يغيروا إال أصابهم هللا بعقاب
من قبل أن يموتوا) وقال (إذا عملت الخطيئة في األرض كان من شهدها فكرهها
كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها ).
القسم الثالث :تعتبر مسؤولية فردية من جهة ومسؤولية غيرية من جهة أخرى وهي
المسؤولية الناتجة عن إضالل اإلنسان غيره بآرائه وتوجيهاته فيتبع اآلخر آرآئه
وطريقته فهو المسؤول في هذه الحالة عن إضالله كسلوك ناتج عن نفسه
ومسؤول عن حياة اآلخر وكل عمل قام به اآلخر نتيجة تأثره باألول ،فاألول
مسؤول في هذه الحالة عن ذنوب اآلخر كمسؤولية اآلخر عن هذه الذنوب ولكن
مسؤولية كل واحد من جهة أخرى فاألول يتحمل تبعة إضالله واآلخر تبعة إتباعه
الضالل وفعله الجرائم ،ومن هنا قال تعالى ( :ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة
ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم أال ساء ما يزرون).
وتحمل اإلنسان مسؤولية سلوك الغير في هذا اإلطار ليست فيها أي غرابة في التفكير
األخالقي .
ذلك أن اإلنسان ليس مسؤوالً فقط عن فعل الشر بل هو مسؤول أيضا ً عن دفع الشر .
ألن هدف األخالق تحقيق السعادة والسعادة ال تتحقق إال بإنقاذ اإلنسان من الشر
أوالً ثم تحقيق الخيرات له ثانيا ً .وإنقاذ اإلنسان من الشر ال يتم إال بالكف عن الشر
.
ولذا كان األمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المبادىء المهمة للغاية في التفكير
األخالقي في اإلسالم .
ثم إن هناك مسؤولية أخرى ال يمكن أن يتحملها اإلنسان وهي أن يتحمل وزر اآلخر
بالقصد أو بالكالم لهذا نزل (:وال تزر وازرة وزر أخرى).
كما أن المسلم إذا دعا الكافر الى اإلسالم فلم يؤمن ودعا المنحرف الى اإلستقامة فلم
يستقم فال يكون مسؤوالً عندئذ عن كفر الكافر وال عن ضالل المنحرف ،ولهذا
قال تعالى( :ال يضركم من ضل إذا اهتديتم ) (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم
بمسيطر).
لكن ينبغي هنا أن نفرق بين مسؤولية المسلم عن ضالل الكافر وكفره وبين مسؤوليته
عن فساد المسلم وانحرافه .
فالمسؤولية إزاء الكفر قاصرة على الدعوة واإلرشاد فقط وليس عليه إكراههم على
اإليمان (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
أما المسؤولية إزاء فساد المسلم والمجتمع اإلسالمي فاألمر يختلف ،إذ المسؤولية هنا
ال تقتصر على الدعوة واإلرشاد بل تشمل أيضا ً مقاومة الفساد وتغيير المنكر
بالقوة واإلكراه فيجب أن يستخدم كل ما يملك من وسائل التغيير .
أما إذا كان ال يملك شيئا ً فيجب أن تكون المقاومة بالقلب وذلك بمقاطعة المنحرف
وعدم التعامل معه بأي صورة من صور التعامل وهذا هو اإلنكار بالقلب الذي
جاء في الحديث وهو أضعف اإليمان .
بعد هذا العرض لفكرة المسؤولية في اإلسالم يبدو أن ذلك الغموض والتعارض قد
زاال عن وجه تلك النصوص تماما ً .
ويستخلص من ذلك أن اإلنسان كائن مسؤول قد تحمل مسؤولية سلوكه اإلرادي عن
جدارة وأهلية وهذه المسؤولية لها مستويات ودرجات بحسب اختالف األعمال
والصور التي تتم بها وبحسب اآلثار المترتبة عليها من الناحيتين المادية والنفسية.
ومسؤولية اإلنسان ال تقتصر على عمله النفسي والسلوكي بل تتعداهما الى
مسؤوليته عن عمل غيره في إطار وحدود معينة .
كما أن مسؤوليته ليست قاصرة على المسؤولية الدنيوية من حيث المكافأة والجزاء بل
إن المسؤولية األساسية هي المسؤولية األخروية التي ينال فيها نتيجة مسؤوليته
بصورة عادلة .
اثبات الجزاء األخالقي
إذا كانت المسؤولية هي نتيجة طبيعية لإللزام ،فإن الجزاء نتيجة طبيعية لها .
والجزاء من حيث أنه أساس أخالقي له اهمية األسس األخرى ،بل إن أهميته مزدوجة
فهو مهم باعتباره دافعا ً الى التمسك بالقيم األخالقية وهو مهم ألن العدالة تقتضيه
ألنها تفرق بين إنسان يبني وآخر يهدم .
فالجزاء يقتضي العدالة والعدالة تقتضي الجزاء وهما يجعالن لألخالق معنى وقيمة
وبدونهما تفقد األخالق مفهومها فتصبح أمراً ال قيمة له .
والجزاء االخالقي أنواع :منها الجزاء اإللهي والوجداني والطبيعي واإلجتماعي .
وليس بينهما فصل حاسم بل بينهما اتصال في آن واحد .
.1الجزاء اإللهي :ينقسم الى ثواب وعقاب حسب النوع .
فالثواب في حالة اإلستقامة والعقاب في حالة اإلنحراف وينقسم بحسب الوقت الى
دنيوي وآخروي.
وبحسب درجة المسؤولية :الى قلة وكثرة والى قطعي وغير قطعي .
هذه األمور بوجه عام واضحة ،وإذا كان هناك أمر يحتاج الى الشرح فهو هذا التقسيم
األخير وهو الجزاء القطعي وغير القطعي .
فمن حيث اإلثابة فقد قطع هللا على نفسه بإثابة المحسن على إحسانه قليالً كان إحسانه
أو كثيراً ،ووعد هللا حق ال يتخلف ( وعد هللا ال يخلف هللا وعده ولكن أكثر الناس
ال يعلمون)( .لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من
تحتها األنهار وعد هللا ال يخلف هللا المعياد) .وال يكتفي بإثابة المحسن بقدر
إحسانه بل يضاعفه الى ما شاء هللا ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل هللا كمثل
حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة وهللا يضاعف لمن يشاء وهللا واسع
عليم).
اما عقاب المسيء ففيه تفصيل ألن هناك ذنوبا ً ال بد من أن يعاقب عليها صاحبها مثل
الكفر واإلشراك به ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل هللا ثم ماتوا وهم كفار فلن
يغفر هللا لهم ) ( .إن هللا ال يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).
وال يغفر هللا كذلك إذا كانت اإلساءة الى العباد ألن هذا حق الناس ال حق هللا وال يغفر
هللا ما للناس على الناس ،ولهذا قال صلى هللا عليه وسلم ( :من كانت له مظلمة
ألحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أال يكون دينار أو درهم إن
كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات إخذ من سيئات
صاحبه فحمل عليه) .قال تعالى ( :وال تحسبن هللا غافالً عما يعمل الظالمون إنما
يؤخرهم ليوم تشخص فيه األبصار) .وهناك مساوىء ترك هللا غفرانها لمشيئتة
مثل الكبائر في حق هللا ألنها دون الشرك ويدخل هذا في قوله تعالى ( :ال تقنطوا
من رحمة هللا إن هللا يغفر الذنوب جميعا ً ) .وهذه اآلية مخصصة بقوله تعالى( :
إن هللا ال يغفر أن يشرك به) .وبناء على ذلك فال يدخل الشرك في ضمن هذه
الذنوب .
وهناك ذنوب صغيرة يسميها القرآن أحيانا ً بالسيئات وأحيانا ً أخرى بالصغائر وثالثة
بالعصيان ورابعة باللمم ،وقد وعد هللا بغفرانها إذا تجنب صاحبها الكبائر ( إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) ( .الذين يجتنبون كبائر اإلثم
والفواحش إال اللمم).
وأخيراً فهناك مسيء ال بد أن يعاقب بناء على وعيده تعالى وهو اإلنسان الذي
أحاطت به خطيئته بسبب استمراره على تعدي حدود هللا وارتكاب كبائر الذنوب
والفواحش مع عدم التوبة توبة نصوحا ً أو تاب عندما احتضر ،وقد سماهم القرآن
وأمثالهم بالفجار( ،إن األبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) (أم نجعل المتقين
كالفجار) ( بلى من كسب سئية واحاطت به خطيئتة فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) .وإن كانت اآلية االخيرة قد نزلت في حق اليهود فالعبرة بعموم اللفظ ال
بخصوص السبب .مصداق ذلك قوله تعالى( :وليست التوبة للذين يعملون السيئات
حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت اآلن وال الذين يموتون وهم كفار أولئك
أعتدنا لهم عذابا ً أليما ً ).
وال يخالف غفران هللا بعض الذنوب قوله تعالى( :فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره
ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) ألنه يعبر عن حالة الحساب في اآلخرة فهناك
حساب لكل عمل ولو كان مقدار ذرة أما إذا غفر في هذه الحياة فال يدخل في
نطاق الحساب في اآلخرة .
وفي ختام بياننا الجزاء االخروي نرى ضرورة التعرض لمسألة متصلة به وهي مدة
الجزاء األخروي سواء كان نعيما ً أو عذابا ً .
لقد بين هللا تعالى تلك المدة عندما ذكر جزاء السعداء واألشقياء فقال ( :يوم يأت ال
تكلم نفس إال بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النارؤ لهم فيها زفير
وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات واألرض إال ما شاء ربك ان ربك فعال لما
يريد ،وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات واألرض إال ما
شاء هللا ربك عطاء غير مجذوذ).
وبين هللا تعالى أن الذين يخلدون في العذاب الكفار ( ومن يرتد منكم عن دينه فيمت
وهو كافر فأولئك حبطت اعمالهم في الدنيا واآلخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون ) .وأن الذين يخلدون في النعيم هم المؤمنون الصالحون ( ومن يأته مؤمنا ً
قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها
األنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) .اما المؤمن المجرم الذي يرتكب
الكبائر فإنه في مشيئة هللا إن شاء غفر له إذا تاب وقبل توبته وإال عذبه بقدر ما
يستحق من العذاب وال يخلد في النار كالكفار ألن رحمة هللا تشمله العترافه
بربوبيته ولهذا قال الرسول صلى هللا عليه وسلم( :أتاني جبريل فبشرني أنه من
مات من امتك ال يشرك باهلل شيئا ً دخل الجنة).
وهذا الحديث يخصص ما ورد من اآليات التي تنص بخلود أهل الكبائر مثل قوله
تعالى ( ومن يعص هللا ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب
مهين ).
.2الجزاء الوجداني:
وهو ترك الحركة الشعورية التي نحس بها في أعماق قلوبنا بالفرح أو التأنيب بعد كل
فعل مباشرة نعتقد أنه فعل حسن أو قبيح .
هذا الشعور أو اإلحساس المتحرك يختلف درجة من فرد الى اخر حسب اإلستعداد
الفطري أو الوراثي والتربية األخالقية وصفاء الضمير ونظافته .
ولعل هذا المعنى هو الذي أشار اليه الرسول صلى هللا عليه وسلم عندما عرف البر
واإلثم فقال( :البر حسن الخلق واإلثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه
الناس ).
فالوجدان أو الضمير يعتبر محكمة عدل مباشرة ال تحتاج الى شاهد وال قاض يخبرك
بخيرية الفعل أو شريته قبل الفعل ويجزيك بالسرور إن كان فعالً حس ًنا
وبالوخز واأللم إن كان شراً .
إن قيمة هذه الجزاء أكثر تأثيراً من قيمة الجزاء المادي ألن هذا األخير وقتي .....
وقد يكون مكافئا ً للعمل أو ال يكون أما األول فهو مصيب ومستمر .
ولهذا قال علماء النفس :إن المجرمين تحت عقاب مستمر وإن نجوا من العقاب
القانوني أو انتهوا منه
وهذا حق ذلك أن المجرم ال يخلو من إحدى الحالتين :إما أنه لم تكتشف جريمته بعد
وإما عرفت لدى االخرين .
ففي الحالة األولى تعتريه ثالث حاالت وجدانية مؤلمة:
األولى :حالة الخوف والقلق المستمرين من انكشاف جريمته ،ولهذا فهم يتحرجون
عادة من الحديث حول الموضوعات التي ارتكبوا فيها الجرائم واآلثام خوفا من
اإلنكشاف ،وصدق هللا العظيم ( ولو نشاء ألريناكم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم
في لحن القول ).
الحالة الثانية :هي تأنيب ضمير مستمر وإحساس بذنب يخدش وجدان المجرم
وشعوره باشمئزاز من نفسه وذاته وهنا تعتري هؤالء دائما ً حاالت نفسية كئيبة ال
تنفرج سريرتهم وال سيما حاالت التذكر لتلك الجرائم التي ارتكبوها .
والحالة الثالثة :أنه يفقد أهليته اإلجتماعية من حب ومودة ....في شعوره الخاص وإن
لم يفقدها في المجتع ذلك أنه يشعر عندما توجه اليه تقديرات الناس أنه لم يعد ذلك
الشخص الذي يستحق التقديرات وكأن ما يناله من تقدير ال يوجه اليه ومن ثم يفقد
ذلك اإلحساس الطيب بخيرية شخصية
الذي يحس به من قبل ويصبح غريبأ بين اهله واحبابه في داخل شعوره الباطني .
ومن هنا يقول صلى هللا عليه وسلم ( :من ساء خلقه عذب نفسه ومن كثر همه سقم
بدنه) .وقال ( :من شقاوة ابن ادم سوء الخلق ).
هذا في حالة إخفاء الجريمة أما في حالة انكشاف الجريمة فتستمر معه الحالتان
األخيرتان وهما تانيب الضمير وشعوره بفقد شخصيته في المجتمع واكثر من ذلك
فإنه يفقد شخصيته عندئذ في المجتمع ظاهراً وباطنا ً وال يجد ذلك التقدير
واإلحترام موجهين اليه من الناس وبذلك يصبح غريبا ً بين أهله وعشيرته .
وبخالف هذه الحاالت حالة إنسان لم يرتكب الجرائم واالثام فإن صفاء وجدانه يجعله
يشعر باإلبتسامة الداخيلة ويشعر في قرارة نفسه بطريقة ال شعورية وبصفة دائمة
بالخيرية الذاتية والسرور المستمر ومن ثم يؤثر هذا او ذاك في سماته الشخصية
الظاهرية .
وشتان بين الوجدانين وبين الشخصيتين الشخصية المجرمة والشخصية الخيرة فإن
اإلنسان إذا كان مجرما ً فاسداً فاجراً يظهر ذلك في سماته ووجهه ويصبح وجهه
مظلما ً قاتما ً واجما ً عبوسا ً وإذا كان خيراً يصبح وجهه باسما ً ناضراً وصدق هللا
العظيم إذ يقول في وصف هؤالء وأولئك للذ ين أحسنوا الحسنى وزيادة وال يرهق
وجوههم قتر وال ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ( والذين كسبوا
السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من هللا من عاصم كأنما أغشيت
وجوههم قطعا ً من الليل مظلما ً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .وقال تعالى
( :تعرفهم بسيماهم) كما يعرف الصالحون بسيماهم (سيماهم في وجوههم من أثر
السجود).
هذه السمة تظهر في الدنيا كما تظهر يوم القيامة ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة
مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) وقال صلى هللا عليه وسلم( :ما
أسر أحد سريرة إال كساه هللا جلداً بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر) .وهذه حقيقة
يؤيدها علماء النفس أيضا ً .
الجزاء الطبيعي:
بينا فيما سبق صلة االخالق بالقوانين الطبيعية واشرنا الى أن الخارج على النظام
الخلقي ينال جزاءه من الطبيعة نفسها .
وقد يرجع هذه الجزاء الى قوانين الطبيعة نفسها مثل اإلصابة باألمراض بسبب
مخالفة القوانين األخالقية كاإلصابة باألمراض السرية بسبب ارتكاب جريمة الزنا
واألمراض التي تصيب بسبب مخالفة قانون النظافة .
وتجاوز قانون اإلعتدال في العمل يؤدي الى اإلرهاق النفسي والعصبي ويكون هذا
سببا ً لإلصابة باألمراض المختلفة كما يؤدي الى الفشل في الحياة عموما ً .