تلخيص كتاب على ساحل ابن تيمية الشيخ الدكتور عائض بن عبد هللا القرني 1 مقدمة ابن تيمية : هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد.
Download ReportTranscript تلخيص كتاب على ساحل ابن تيمية الشيخ الدكتور عائض بن عبد هللا القرني 1 مقدمة ابن تيمية : هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد.
Slide 1
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 2
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 3
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 4
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 5
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 6
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 7
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 8
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 9
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 10
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 11
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 12
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 13
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 14
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 15
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 16
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 17
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 18
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 19
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 20
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 21
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 22
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 23
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 24
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 25
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 26
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 27
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 28
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 2
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 3
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 4
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 5
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 6
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 7
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 8
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 9
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 10
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 11
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 12
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 13
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 14
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 15
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 16
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 17
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 18
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 19
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 20
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 21
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 22
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 23
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 24
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 25
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 26
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 27
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28
Slide 28
تلخيص كتاب
على ساحل ابن تيمية
الشيخ الدكتور
عائض بن عبد هللا القرني
1
مقدمة
ابن تيمية :هو شيخ اإلسالم اإلمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم
بن عبد هللا بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد هللا ابن تيمية الحراني ثم
الدمشقي .ولد يوم االثنين العاشر من ربيع األول بحران سنة 661هـ ،ولما بلغ
من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هر ًبا من وجه الغزاة التتار .
وتوفي ليلة االثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ( )728هـ وهو مسجون
بسجن القلعة بدمشق وعمره ( )67سنة ،فهب كل أهل دمشق ومن حولها
للصالة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر
جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
ونعرض فيما يلى تلخيص لكتاب (على ساحل ابن تيمية)
2
طهره في شبابه :كان ابن تيمية من الصغر في عناية هللا عز وجل وفي رعايته ،
نشأ بين بيته الطاهر العفيف ،وحفظ كتاب هللا من الصغر ،وتعلم السنة وأخذ
اآلداب اإلسالمية من أهل العلم ،عاش عفيفا ً رزينا ً عاقالً محافظا ً على الفرائض ،
معتنيا ً بالسنن ،كثير األذكار واألوراد ،بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب .
جده في التحصيل وحفظه:نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغالً في
كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة وتكرار وحفظ ومذاكره واستنباط وكتابة
وتأليف وتعليق حتى إنه لم يتزوج – رحمه هللا – النشغاله بالعلم والجهاد ونشر
الخير في الناس ،ولم يتول أي والية وال مشيخة وال منصب دنيوي ،ولم يتشاغل
فن فقط ،
بالمال .ثم إنه لم ينهل من علم واحد وال من تخصص فحسب ،وال من ٍ
بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها ورد على أصحابها ،ورسخ في الجميع
فصار آية وأصبح أعجوبة ً فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم .
واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا ،وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في
ذهنه ،وبذلك حفظ كتاب هللا عز وجل ،وحفظ السنة المطهرة ،وحفظ أقوال أهل
العلم ،وحفظ اآلثار ،وحفظ التفاسير ،وحفظ شواهد اللغة .
3
بقوة
ألمعيته :األلمعية هي سرعة الخاطر وجودة الذهن ،فقد كان يفهم المسألة ٍ
وجدارة ،وكان يعي مهما يقرأ وكان ينتزع الفائدة ويستنبط من النص استنباطا ً
عجيبا ً ،وكان إذا حاور يفهم كالم محاوره ويرد عليه في سرعة البرق ،ومن
ألمعيته أنه كان يدرك الشبهة في أسرع وقت ،ويرد عليها ،ويثبت الحق ،ويميز
بين المتشابهات ،ويفرق بين المختلفات .وكان أحيانا ً ينقد بعض المحدثين
والمؤرخين ،وبعض الفالسفة وأهل المنطق ،وعلماء الكالم ،ويرد عليهم في
تخصصاتهم.
سعة علمه :وكان أعجوبة في التفسير ،يقرأ – كما ذكر عن نفسه – أكثر من
مائة تفسير في اآلية ،ثم يدعو هللا ويتضرع إليه فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما ً
في اآلية لم يكن مكتوبا ً من ذي قبل ،وربما أملى في اآلية الواحدة كراريس ،ورد
على المناطقة وتغلب عليهم بالحجة وعال عليهم بالبرهان ،ورد على علماء
الطوائف من رافضة ومعتزله وجهمية واشاعرة وصوفية ودهرية ويهود ونصارى
كل ذلك وهو معتصم بالدليل .
4
همته :لم يرض بعلم دون علم ،ولم يقنع بتخصص دون تخصص ،بل رسخ في
الجميع ،ومهر في الكل ،تتجلى همته في العبادة ،فقد كان خاشعا ً منيبا ً متسننا ً ،
كثير األوراد صالة وصياما ً وذكراً ودعاء .وفي التأليف ،فهو من العلماء الثالثة
الذين بلغوا الغاية في التأليف ،وهم ابن الجوزي والسيوطي باإلضافة إليه ،وقد
كان أكثرهم تحقيقا ً وتنقيحا ً ورسوخا ً وعمقا ً ونفعا ً وأثراً في األمة ،حتى قيل إن
مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف ،ولو جمعت لكانت أكثر من
خمسمائة مجلد ،وقد ضاع منها الكثير .كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل
بالدعوة الفردية ،والدعوة الجماعية ،ودعوة السلطان وحاشيته ،ودعوة العامة
،ودعوة الطوائف جميعا ً ،ودعوة غيرالمسلمين.
غيرته على محارم هللا :كان ابن تيمية يغار ويغضب كل الغضب إذا انتهكت حدود
هللا عز وجل .وقد جلد من أجل حماية جناب المصطفى صلى هللا عليه وسلم ؛ فقد
اعتدى بعض النصارى على الجناب الشريف بكالم فدافع ابن تيمية ،فشكاه ذلك
المعتدي إلى السلطان ،وهيج العامة على ضربه ،فجلد شيخ اإلسالم في مجلس
السلطان بسبب هذا ،وألف في ذلك ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى
هللا عليه وسلم .
5
كان يدخل السوق وينبه على الباعة وأهل المكاييل والموازين .كان ينهى الصوفية
عن ابتداعاتهم والسحرة والمشعوذين ،وينهى عن مخالفة السنة ظاهراً وباطنا ً .
زهده :يقول عن الزهد ”:أنه ترك ما ال ينفع في اآلخرة ”وحقق هذا القول في
حياته؛ فقد أعرض إعراضا ً كليا عن الدنيا وزهد فيها ،وعاش لآلخرة ،فلم يتقلد
منصبا ً ،ولم يجمع ماالً ،ولم يأخذ أعطيه ،ولم يبن بيتا ً ،ولم يتآكل بالعلم ،بل كان
جل همه العلم النافع والعمل الصالح ،وما كانت تعرف له إال غرفة واحدة بجانب
المسجد ،مع قلة المالبس وقلة ذات اليد .
سنيته و سلفيته :ظهرت سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليه قوال ًوعمالً ،
في عباداته ،في معامالته ،في كالمه.وكان مقصده أن يقرر مذهب السلف فأظهر
هذا المنهج وعلمه في دروسه وفي خطبه ،ودعا إليه سراً وجهراً ،حتى في
مجالس الملوك ،وفي ديوان السلطان ،وفي بالط الوزراء واألمراء .
ابن تيمية مع الدليل :فال يقول قوالً له دليل في الكتاب أو في السنة إال أورده ،
وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت ،وأال يكون مقلداً .
6
أبن تيمية مفسراً :حوى التفسير وطالع كتبه جميعا ً ،وحصرها .وقد نقل أن له
تفسيراً خاصا ً به ،لكن الذي طالعناه من كالمه في التفسير عجب من العجاب ،
فأحيانا ً يورد اآلية ثم يسهب في مقاصدها ومعاينها ومراميها وأحيانا ً يظهر أغالط
كثيراً من المفسرين ويرى أنهم وهموا وأخطئوا في ما ذهبوا إليه ،كل ذلك بكالم
رجل عرف اللغة وعرف مدلول الكالم ،وعرف النقل صحيحه وسقيمه .
ابن تيمية محدثا ً:المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وقد
أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتي المدائح ،وقال إن لهم نصيبا ً من قوله سبحانه
وتعالى ( :ورفعنا لك ذكرك ) ،وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل ،وأنزل أهل
المنطق والفلسفة منزلة المنافقين .
كان ابن تيمية ينسب الحديث إلى من خرجه ويبين مصادر كل رواية ويبين الزيادة
،ويعرف الشاذ ،ويدرك المنكر ،ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر
المحدثين ،بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك .
7
ابن تيمية فقيها ً :الفقه هو إدراك معنى النص والغوص في داللة النقل ،وهكذا كان
ابن تيمية ،فليس فقهه فقه من ينقل األقوال أو يتبع كالم األئمة ويحفظه وينقله لنا
،لكنه أدرك أقوال األئمة جميعها ،وأقوال الموافقين والمخالفين وأهل المذاهب
والروايات المختلفة لكل عالم ،ثم جعل النص نصيب عينيه واستنبط منه ،ثم ذكر
من وافقه ومن خالفه.
ابن تيمية مناظراً :نقل عنه أهل السير انه كان يحضر مجالس المناظرة ،وتعقد له
مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر األلباب ،ويعلو عليهم وينتصر
بالحجة الدامغة ،والذاكرة الواعية ،والبديهة اللماحة ،حتى إنه ناظر كثيراً من
الطوائف في حضور السلطان وعلى مرأى من الخاصة والعامة ،فكان الحق معه .
وكان ال يكل وال يمل من المناظرة ،بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى
يوقعه ويصرعه ،كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في اآلخر ،فليس
قصده المغالبة لذاتها ،وال قصده الظهور والشهرة وال قصد أن تكون له منزلة وال
مكانة ،فقد ترك المنازل الدنيوية ألهلها .
8
ابن تيمية مجاهداً :عرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي ،فجاهد جهاد الكلمة ،
عبر الدروس والخطبة والمحاضرة والوعظ والنصائح والكلمة ،عبر الرسالة
والمؤلف والفتوى واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد بالسيف ،فقد
حضر غزوة ( شقحب ) (، )1ودعا الناس للجهاد ،بالفطر في رمضان ،وثبت
ثبات الجبال ،وأبلى بالء حسنا ً .
ابن تيمية عابداً :كان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار ،فكانت
صالته طويلة ،كثير الذكر حتى إنه ال يفتر لسانه ،ويمضي الليل الطويل ما بين
الركوع والسجود والقنوت والبكاء والتضرع ،وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة ،
وإذا خرج إلى األسواق ورآه الناس كبروا وهللوا ،وكان إذا قرأ القرآن قرأه
بصوت خاشع مبك حزين ،وكان كثير الصدقات .
-------------------------------------------------------) (1سنة 702هجري معركة " شقحب ” :أراد حفيد " هوالكو " الملك " قازان " ،إنهاء حكم
المسلمين في مصر ،وتسليم بيت المقدس للنصارى ،فجهز لهذه المهمة جيوشا جرارة ،وتقدمت
جيوشه إلى بالد " حلب " و" حماة " حتى وصلت إلى " حمص " و" بعلبك " ،فتصدى لهم
المسلمون بعد أن قام شيخ اإلسالم ابن تيمية بشحذ همم المسلمين شعوبا وحكاما لمواجهة الغزاة ،
والدفاع عن المقدسات ،ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين .
9
كالمه عن اليهود :فقد كشف ابن تيمية زيفهم وبين مخازيهم في كثير من كتبه
وفي غصون كالمه ،شارحا ً لآليات التي وردت بصددهم ،عارفا ً ضررهم على
األمة وما فعلوه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ملما ً بكتبهم وفرقهم
وطوائفهم ،كل ذلك وقصده محاربتهم وحماية الدين منهم .
كالمه مع النصارى :عايش ابن تيمية النصارى في الشام وعرف طوائفهم
وفرقهم معرفة تامة ،وألف كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) يبين
فيه زيفهم وخطورتهم على اإلسالم وما خالفوا فيه شرع هللا عز وجل وما ضلوا
فيه .
كالمه مع المالحدة :بين انحرافهم المشين ،وغوايتهم الظاهرة ،بل يأتي إلى
الملحد فيبين أصل إلحاده ،ومنشأ هذا اإللحاد وسببه وأقوال ذاك الملحد ونقوالته،
سواء كان من الصوفية االتحادية أو الحلولية وسواء كان من أهل الفلسفة أو من
أهل المنطق ،أو من أهل الهوى والزيف ،وقد يجمع له رسالة في ذلك ،أو كتابا ً
مستقالً في غصون كالمه في مؤلفاته.
10
كالمه مع الرافضة :من أحسن كتب شيخ اإلسالم على اإلطالق ( منهاج السنة ).
فبين باألدلة الشرعية القاطعة ،والحجج العقلية مخالفة الرافضة ألهل السنة ،
واعتداءهم على أصحاب الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وكذبهم وافترائهم.وكتاب
(منهاج السنة) ظهرت فيه أمور منها :االنتصار ألهل البيت ،وألصحاب رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنها بيان الكذب والزيف الذي دخل على األمة من
طريق الرافضة ومنها أن الحق ما كان عليه أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم في أهل البيت ،وفي أصحاب الرسول عليه الصالة والسالم ،وفي المعتقد .
كالمه عن الخوارج :الخوارج قوم مارقون منتسبون إلى اإلسالم ،وأخبر صلى هللا
عليه وسلم بأنهم يمرقون من اإلسالم كما يمرق السهم من الرمية ،تحقرون
صالتكم إلى صالتهم ،وصيامكم إلي صيامهم وتالوتكم إلى تالوتهم ولهم أتباع
ويرون الخروج على أئمة الجور ،ويرون سل السيف على األمة ،ويكفرون
بالكبيرة ،وقد تتبعهم ابن تيمية في كتبه وبين مخالفتهم واصل نشأة فكرتهم
الضالة.
11
ابن تيمية وكالمه عن المرجئة :والمرجئة قوم يرون أن أصل اإليمان واحد ،وأنه
ال يزيد وال ينقص ،وأن صاحب الكبيرة مؤمن كامل اإليمان ،وهذا كله خطأ مخالف
للكتاب والسنة ،وقد رد على ذلك ابن تيمية في كتبه ،وشرح وبسط ؛بين أن
اإليمان يزيد وينقص ،ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وأنه متفاوت والناس
متباينون فيه على درجات ،وأن صاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ناقص اإليمان .
ابن تيمية والجهمية والمعطلة :عطلوا أسماء هللا الحسنى وصفاته وألحدوا في
دين هللا عز وجل ،وقالوا بخلق القرآن ،وقد صار لهذه الفرقة شأن في عصر
المأمون ،وتصدى لهم اإلمام أحمد في مسألة القول بخلق القرآن ،وأتى ابن تيمية
بعده بقرون فبين أصل هذه الشبهة ،ورد على الجهمية رداً مفصالً في كثير من
كتبه ودحض زيفهم ،وبين أن أهل السنة يثبتون األسماء والصفات ،كما أتت في
الكتاب والسنة ،بال تكييف وال تمثيل وال تشبيه وال تحريف وال تعطيل ،وأن القرآن
كالم هللا عز وجل ليس بخلق من خلقه ،وإنما هو من أمره تبارك رب العالمين .
ابن تيمية وكالمه عن المعتزله :والمعتزلة قوم قدموا العقل على النقل ،وقدموا
الرأي على الدليل ،وأثبتوا األسماء ونفوا الصفات ،فتتبعهم ابن تيمية ورد على
أئمتهم.
12
ابن تيمية واألشاعرة:األشاعرة اقرب الناس ألهل السنة ،ومن أئمتهم أناس نفع
هللا بهم ودافع بهم عن الملة ،بل ردوا على المعتزلة وردوا عل الجهمية المعطلة
،ولكنهم خالفوا أهل السنة في كثير من المسائل ،بينها الشيخ ابن تيمية في كتبه
وأوضح الحق في ذلك ؛ كمخالفتهم في إثبات سبع صفات ونفى الباقي من الصفات
،وبين أن القول في بعض الصفات كالقول في البقية ،وأن من أثبت صفاته هلل عز
وجل يلزمه أن يثبت بقية الصفات ،وأن القول في الصفات كالقول في الذات ،وقد
ذكر هذه القواعد في رسالته المباركة ( التدمرية ).
ابن تيمية وكالمه عن الصوفية :كتب ابن تيمية كتاب ( االستقامة ) ،وله كالم في
الصوفية في فتاويه ورسائله وفي كتب أخرى ،بين الحق في زيفهم ،ورد على
الحلولية وعلى االتحادية وكفرهم ،وذكرأئمتهم وبين مخالفتهم لكتاب هللا عز
وجل وسنة الرسول عليه الصالة والسالم ،وكشف خطورة منهج التصوف على
الدين ؛ فقد ابتدعوا طقوس ما أنزل هللا بها من سلطان ،وانتهجوا نهجا مخالفا
ألهل السنة في سكناتهم،في موالدهم وفي اجتماعاتهم،في هيئاتهم في خزعبالتهم.
13
ابن تيمية وكالمه عن القدرية والجبرية :أهل السنة يثبتون أن الذي قدر األمور هو
هللا عز وجل ،ولكن هذه الفرق الضالة قالت :إن العبد مجبور على فعل المعصية ،
وأنه ال مشيئة للعبد أبدا ،بل هو كالريشة في مهب الريح ،فبين ابن تيمية خطأ
هؤالء ،وبين أن للعبد مشيئة تحت مشيئة هللا عز وجل ،وأنه ليس مجبوراً على
المعصية ،وأنه ال حجة لعاص على هللا تعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
سرعة خطه :من لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية أنه سريع الخط ،فخطه أسرع
من كالمه وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتابا ً ( كالتدمرية ) ،و ( الحموية ) ،و
(الواسطية ) ،وقد درست كل واحدة منها في سنة دراسية في الجامعات ،وربما
كتب كتابا ً في عدة أيام ،فكان يتناول القلم ثم ال يتوقف ،وليس عنده أوراق وال
مراجع وال كتب قريبة منه ثم ال مصنفات ،وإنما يفيض هللا سبحانه وتعالى عليه
من فتوحاته ،ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية .
تاليفه :ترك ابن تيمية للمكتبة اإلسالمية تراثا ً عامراً وتركه مباركة ،فهو من أكثر
من ألف على طول تاريخ اإلسالم من أهل العلم ،وال أعلم عالما ً نفع هللا بتأليفه
األمة في عدة فنون كهذا العالم ،صحيح أن أحمد بن حنبل – مثالً -أو البخاري ،
أو الشافعي ،أو مالك ،لهم تآليف نافعة ،لكنها في أبوابها .
14
غير أن ابن تيمية ترك عدة تآليف في عدة فنون ؛ فنفع أهل اإلسالم في باب
التفسير ،والفقه ،والمعتقد ،وأصول الفقه ،والمنطق والفلسفة ،وعلم الكالم ،
إلى آخر ذلك ،والعجيب في تآليفه أنها صارت حديث الناس ،ودخلت الجامعات
،واستفاد منها أهل العلم على تعدد مشاربهم .
ابن تيمية ومسألة التوحيد :أحسن ابن تيمية كل اإلحسان في هذه المسألة،
فاستولت على جل حديثه وكتاباته ورسائله وتأليفه ،واعتنى بها كل العناية؛
لحاجة البشر إليها ،فبسطها شيخ اإلسالم بأنواعها كتوحيد الربوبية ،وتوحيد
األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،وتحدث عن مسألة الشرك بأقسامه وبينها
برسائل ومؤلفات .
ابن تيمية ومسألة التاريخ :نقل الذهبي وغيره أن الشيخ مؤرخ ،وأنه يعتني
بتاريخ الدول والرجال والسالطين ،وما سلف كافة األمم والشعوب ،ومن يقرأ
بعناية لتاليف ابن تيمية يلحظ ذلك ،حتى إنه يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل اإلسالم .
صموده رغم المعوقات :فابن تيمية لم يثنه ما حصل له من األذى والكيد والمكر
والمجابهة والمواجهة ،بل زاده ذلك قوة وإصرار ومضاء واستمرار ،فإنه واجه
من الحسد ما هللا به عليم حتى من أقرب المقربين إليه .
15
فحسده أرباب المذاهب اإلسالمية ،وأهل المشارب الفقهية ،وحسده علماء الكالم
،وحسده أهل الطوائف من غير أهل السنة ،فافتروا عليه ونسبوا إليه ما لم يقل ،
ألفوا فيه الكتب والرسائل ،وأهدروا دمه ،وافتوا بقتله وضللوه ،ودعوا السلطان
إلى سجنه وبالفعل سجن خمس مرات ،وكادوا له ،ومنعوا كتبه ومنعوه من
التدريس ،ومنعوه من الحديث ومواجهة الناس ،وتناولوا عرضه ،وجلد مرة من
المرات ،وأخرج من دمشق إلى مصر .كل ذلك والرجل صابر مصابر محتسب على
ما أصابه في سبيل هللا مصر على تبليغ فكرته ،فصار مضرب المثل في ذلك كله .
ابن تيمية وأسلمة العلوم :هذه عبارة عصرية حادثة ،ولكنك إذا نقلتها إلى عصر
ابن تيمية تجده يؤسلم المعرفة ،يأتي بالعلوم الداخلة والوافدة على المسلمين
فيضعها في ميزان الكتاب والسنة فيقبل الصحيح منها ويترك المخالف ويطرح
المرذول ،فكلما سمع بفن قرأه وأبحر فيه ثم عرضه على منهج الوحي ،وعلى
ميراث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فإن وافق رضيه وقبله ،وإن خالف رده مهما
كانت قوة هذا القول .
ابن تيمية ومشروعه اإلصالحي :كان له مشروع إصالحي يهمه ويؤرقه؛ وهو
إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى ( بالتجديد) ،همه أن يجدد لألمة ما
درس من دينها ،وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه والتابعون .
16
ابن تيمية والمعاصرة :لما حوى ابن تيمية الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون
له أسلوب عصري متميز ،غير متخل عن مبادئه وأصوله األولى السلفية السنية ،
ولكنه يكسو كالمه بجلباب المعاصرة وبعبارات من عاصروه من العلماء ،وأنه ال
غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة وكانت قوالبها
أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة ؛ ولذلك كان يتكلم للفالسفة
بمصطلحاتهم وللمتكلمين بجملهم ،وللصوفية بإشاراتهم ،وللمعاصرين من
الفقهاء بكالمهم ،وهذا الذي يسر له االنتشار ،والعموم ،واالهتمام .
ابن تيمية داعية :دعا إلى هللا بعمله ومقاله وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر
علمه على الفتيا فحسب ،ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس ،بل ذهب إلى غيره
وزار األماكن العامة ،وتكلم مع الخاصة ،ودخل عل السلطان ،وحاور الفرق
المخالفة ،وناظر المبتدعة وراسل األقاليم .عمل بعلمه كما قال سبحانه ( :ومن
أحسن قوالً ممن دعا إلى هللا وعمل صالحا ً وقال إنني من المسلمين ) .
17
جرأته :ومن مزايا هذا اإلمام انه ثابت الجنان ،فال يخاف من بشر ،وال يرهب
إنساناً ،سجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه ،ودخل على الملوك فكاد
يزلزل عروشهم بكالمه القوي الصادق العميق ،وكان يشرح فكرته في كل مكان ،
تعظيمه لربه :فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته وفي رسائله
وتأليفه ،وحتى قال بعض الفضالء من المعاصرين :كنت إذا ضعفت في إيماني
عدت إلى المجلد األول في ( الفتاوى ) ،وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه ،ومدحه
لمواله ،وكالمه عن قدرة خالقه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ،بأسلوب
عجيب يأخذ بمجامع القلب ،ويستولي على منافذ النفس .
توقيره لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يوقر رسول الهدى صلى هللا عليه وسلم
ويحترمه وينصر أقواله ،ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس ،ودافع عن
رسول صلى هللا عليه وسلم ،وأوذي بسبب هذا الدفاع ،وألف كتابه الشهير
( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم .
18
ابن تيمية والوسطية :يقول سبحانه وتعالى ( :وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً ) ،
والتوسط في األمور يدل على العلم التام ،والخشية المتناهية ،والعقل الراجح ،
وكذلك كان شيخ اإلسالم كان يدعو طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون
وسطا ً في كل أموره ،حتى في أخالقه وسلوكه فإن الدين جاء بالوسط ال إفراط
وال تفريط ،وال غلو وال جفاء .
ابن تيمية واألولويات :في باب العلم كان يقدم األول فاألول ،فتجده مهتما ً بمسألة
التوحيد الكبرى ؛ فكانت جل كتبه في األصول ،وغالب بحوثه في المعتقد ،حتى
نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو األلوهية أو األسماء والصفات – تنظير ،
وأصل له تأصيالً استفاد منه الماليين بعده – رحمه هللا -وصارت كتبه هي المرجع
في المكتبة اإلسالمية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار اإليمان والمتعقد .
ابن تيمية وفقه التيسير :فكان – رحمه هللا – يسيراً سهالً في فتاويه ،وفي
أحكامه الصادرة ،وفي مناقشاته ،يدرك اليسر في داللة النصوص ،وفي مقاصد
الشريعة ،فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين
أتي لرفع الحرج ووضع اآلصار واألغالل عن األمة .
19
وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمغفرة والرحمة ،وإذا تكلم في الفروع أتى
بالرأي األيسر الذي يسعفه الدليل ،كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة
كتب المذاهب ،وجاء هذا اإلمام وبين أن الحق في خالفها .
خذ مثال المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسألة قررت
درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ،فلما جاء هذا اإلمام بين أن الحق خالفها ،
فالحنابلة – مثالً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم المياه ثالثة أقسام ،فيخطئهم ويقول
المياه قسمان فقط :طاهر ونجس ،والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا
ليست في الكتاب والفي السنة فيبين أن هذا من اآلصار واألغالل ،واشترطوا
مسافة محددة باألميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب وال في السنة
،بل ال يسمى سفراً أيضا ً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة
بين أن السنة خالف ذلك بالدليل والبرهان ،وفي مسائل المعامالت والبيع والشراء
والصرف واإلجارة وغيرها بين نقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان
20
معرفته ألسرار السيرة :والعجيب أنه إذا تكلم في الخالفة والملك وقضايا الصحابة
والمغازي والسير والمالحم ال يوردها إيراداً فحسب ،بل يقف وقفة مستبصرة
ويخرح لك كنوزاً .أذكر على سبيل المثال :ولى أبو بكر خالد بن الوليد ،ثم لما
تولى عمر الخالفة نزعه وعزله وولى أبا عبيده ،قال ابن تيمية في ذلك :إن أبا
بكر رجل لين رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ،وإن عمر
قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو أبوعبيدة ،فبين أن من السياسة
الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خالف في بعض الصفات ،ليكمل أمر األمة
في اللين والقوة والشدة ،إلى غير ذلك من األسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه
هللا .
لماذا لم يفسر القرآن كامالً ؟ :طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ،فرد بأن غالب
القرآن واضح معلوم للقارئ ،وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان
والتفسير ،وهذا الذي قاله صحيح ،مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كامالً
وهللا أعلم ،ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء ال يوجد
– غالبا ً – في كتب التفسير ؛ من براعة االستنباط وحسن االستدالل وعميق الفهم
ورسوخ الفقه .
21
لماذا لم يؤلف ابن تيمية كتابا ً جامعا ً في الفقه ؟ :لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف
كتابا ً جامعا ً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ ألنه كان مشغوالً بقضايا أهم ؛ فهو
يرى أن كتب الفقه موجودة على المذهب ،وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ،
لكن األهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل األصول في المعتقد ،ونصره السنة ،
والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة ولم يشرح ابن تيمية كتابا ً – فيما أعلم
– إال ( العدة ) ،شرح منه جزءاً .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية :صدر ابن تيمية منشرح ،وهو صاحب ثقة فيما
عند هللا عز وجل ،ومتفائل بالنصر دائما ً والعاقبة الحسنة ألولياء هللا ،وهو حسن
الظن بربه ،وينظر بنظرة متفائلة لألمور ،وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد
هللا ألوليائه أسهب وأطنب ،وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند هللا عز
وجل من مصير مبارك ،وإذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة هللا عز وجل ،
وحبب إليك اإلنابة ،وقربك من المغفرة ،وذلك على طريق العودة إلى هللا عز
وجل ،ال تقرأ في كالمه اليأس ،وال تفهم منه القنوط .
22
ابن تيمية والشعر :لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ،ربما نظم القصائد واستشهد
لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره .كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من
مائتي بيت في جلسة واحدة ،وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى هللا.
ابن تيمية واألمثال :إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض األمثال التي
سارت في الناس ،أوأنشأها من نفسه هو ؛مثالً تحدث عن ( البطائحية ) وهى فرقة
صوفية ضالة ،كان عندهم شيء من اإلسالم ،فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مثل
التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ،فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم! فقال
شيخهم له:ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟
قال ”:مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا
دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ،وإذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ،فأنتم
دهم ؛ ألن عندكم شيئا ً من اإلسالم ،والتتار سود لما عندهم من الكفر،ونحن بيض
لما عندنا من نور السنة ،فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم
بيض ،وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ” .
فتعجب األصحاب من مثله .وسمع صوفيا ً يقرأ آية خطأ ويقول (:فخر عليهم السقف
من تحتهم ) !فضربه وقال ” :ال عقل وال قرآن ” ؛ألن العقل يدل على أن السقف
من فوق ،والقرآن فيه ( :فخر عليهم السقف من فوقهم ) .وله أمثال في ذلك ال
يتسع المقام لذكرها .
23
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة :فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله
كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو(منهاج السنة)أو (اقتصاد الصراط
المستقيم )أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى هللا عليه وسلم ،وغير
ذلك ،فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد العمق والدقة فله كتب ،ومن أراد
السهولة والشرح والبسط فله كتب ،وغالب رسائله وفتاويه في ( الفتاوى ) تفهم
من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ ألنه يوضحها ويسهلها .
ابن تيمية رجل المرحلة :الشك أن هللا سبحانه وتعالى هيأ الظروف واألحوال
لخروج مثل هذا الرجل اإلمام المجدد ،إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو
إلى الرثاء .فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر
كثير من الكهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين واألفاكين ،ووجد كثير من
المبتدعة ومذاهبهم المنحرفة ،واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من
الحاكم ،والجهل بالشريعة ،كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،
وجهل بالنص ،وبعد عن الدليل ،كما وجد من يصد عن منهج هللا عز وجل في
المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا كفرقة البطائحية ،وكالنصيرية الضالة
المنحرفة ،وكأتباع غالة المتصوفة ،وأتباع ابن عربي الحلولي االتحادي ،وغيرهم.
24
ابن تيمية وعالقته بالدولة في عهده :ال شك أن ابن تيمية صحب في تلك الفترة
السالطين من المماليك ومن األمراء الذين يتبعون للدولة العباسية في أواخر
عهدها الذى اتسم باالنحطاط والضعف ،وهؤالء السالطين نافذون في مصر
والشام ،وكان عندهم جور وظلم ،وهم في الجملة مسلمون ،فعاملهم بما يقتضي
الحال من النصيحة واإلرشاد والتوجيه ،ولم يوافقهم على باطلهم ،ولم يأخذ
أعطياتهم ،ولم يدخل في شيء من وظائفهم ،ولم يتقلد لهم مناصب ،وإنما كان
همه إصالحهم وإعادتهم إلى منهج هللا عز وجل وإلى شريعة رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،وهو في المقابل لم يخرج عليهم ،ولم يدع إلى مقاتلتهم ؛ ألمور منها
أنه يحتكم إلى الشرع الذي يدعو صاحبه صلى هللا عليه وسلم إلى عدم الخروج
على اإلمام المسلم ما لم نر فيه كفراً بواحا ً .فالمعاصي والجور والظلم ال تقتضي
الخروج على الحاكم مهما كانت ؛ ألن الخروج أعظم مفسدة من البقاء تحت واليته
،لما ينتج من ذلك من افتراق الكلمة ،وسفك الدماء ،وذهاب األموال ،والفساد
في األرض ،فكان ذلك منهج ابن تيمية ومنهج أئمة اإلسالم وهذا هو المنهج
الصحيح الموافق لشرع هللا عز وجل .
25
من هم خصوم ابن تيمية ؟ :أعظم خصومه هم أعداء الملة من المالحدة واليهود
والنصارى والصبابئة والدهريين ،وإلى غير ذلك من أعداء اإلسالم .كشف
مستورهم الخبيث بالتشهير بهم وبزلزلة مناهجهم الضالة وأوذي فى ذلك كل األذي
ونشأ له أعداء من العلماء المعاصرين ،اجتمعوا وأفتوا بسفك دمه ،وأوهموا
العامة أنه مخالف لما كان عليه السلف ،وبتروا أحاديثه ،وقطعوا كثيراً من كالمه
عن سياقه في مؤلفاته ،فظهر عليهم بالحجة وانتصر عليهم بالدليل ،وكان له
أعداء من السالطين الظلمة ممن يتبعون الشهوات ،ويريدون أن تميل األمة ميالً
عظيما ً ،فقام لهم ،وخالفهم كل المخالفة في هذا .فأبان هللا للعامة والخاصة أن
هذا الرجل العظيم على نور من هللا عز وجل ،وعلى هدي من رسوله صلى هللا
عليه وسلم ،حتى إنه لما مات كانت جنازته آية للناس من كثرتها واجتماع الناس
عليها وترحمهم وتأسفهم .حتى ذكر أن بعض اليهود والنصارى خرجوا فيها،
وقيل أن منهم من أسلم ،وتاب كثير من العصاة .فرحمه هللا رحمة واسعة .
إلى هنا انتهى تلخيص كتاب (على ساحل ابن تيمية).ونعرض فيما يلى أبيات من شعره
26
( ياسائلي عن مذهبي وعقيدتي )
َيا َ
سائِلِي َعنْ َم ْذه َِبي َو َعقِي َدتِي *** ُر ِز َق ا ْل ُهدَى َمنْ ِل ْل ِهدَا َي ِة َي ْسأَل ُ
ُمح ِّق ٍق فِي َق ْولِ ِه
إِ ْس َم ْع َكالَََ م َ
*** ال َ َي ْن َثنِي َع ْن ُه َوالَ َي َت َب لدل ُ
َبٌَ
*** َو َم َو لدةُ ا ْلقُ ْر َبى ِب َها أَ َت َو ل
ص َحا َب ِة ُكلُّ ُه ْم لِي َم ْذه ٌ
ب ال ل
ُح ُّ
سل ُ
ساطِ ٌع
الصدِيق ُ ِم ْن ُه ْم أَ ْف َ
*** ََ ل ِك لن َما ِّ
ضل ٌ َ
ِول ُكلِّ ِه ْم َقدْ ٌر َو َف ْ
ضل ُ
ان َما َجا َء ْت ِب ِه
*** آيِ َََِ ا ُت ُه َف ْه َو ا ْل َقدِي ُم ا ْل ُم ْن َزل ُ
َوأُق ُِّر ِبا ْلقُ ْر َء ِ
َح ًقا َك َما َن َقل َ ِّ
الص َفا ِ
َو َجمِي ُع آ َيا ِ
***
ت أُم ُِّرهَا
ت ِّ
الط َرا ُز األَ لول ُ
َوأَ ُر ُّد ُع ْق َب َت َها إِلَى ُن لقالِ َها
*** َوأَ ُ
صو ُن َها َعنْ ُكل ِّ َما ُي َت َخ ليل ُ
*** َوإِ َذا ْ
اب َو َرا َءهُ
قُ ْب ًحا لِ َمنْ َن َب َذ ا ْل ِك َت َ
اس َت َدل ل َيقُول ُ َقال َ األَ ْخ َطل ُ
27
َوا ْل ُم ْؤ ِم ُنونَ َي َر ْونَ َح ً
َ
َ
ْ
َ
ٍ
ل
ز
ن
ي
ف
ي
ك
ر
ي
غ
ب
اء
م
س
ال
ى
ل
إ
و
**
*
م
ه
ب
ر
ا
ق
ِ
َ
ْ
ْ
َ
ل
َ
ُ
ل
َ
ِ ُ
ْ
ِ
ِ ِ
َوأُق ُِّر ِبا ْلم َ
ان َوا ْل َح ْو ِ
ض اللذِي *** أَ ْر ُجوا ب َِِ َِأَ ِّني ِم ْن ُه َر ًيا أَ ْن َهل ُ
ِيز ِ
اج َو َ
َو َك َذا ِّ
آخ ُر ُم ْه ِمل ُ
الص َرا ُط َي ُم ُّر َف ْو َق َج َه لن ٍم *** َف ُم َو ِّح ٌد َن ٍ
صالَهَا ال ل
ان َ
َوال لنا ُر َي ْ
س َيدْ ُخل ُ
شق ُِّي ِب ِح ْك َم ٍة *** َو َك َذا ال لتق ُِّي إِلَى ا ْل ِج َن ِ
َولِ ُكل ِّ َح ٍّي َعاق ٍِل فِي َق ْب ِر ِه
ار ُن ُه ُه َنا َك َو ُي ْسأ َل ُ
*** َع َمل ٌ َي َق ِ
اعتِ َقا ُد ال ل
ِي َومالِكٍ
شافِع ِّ
َه َذا ْ
*** َوأَ ُبو َحنِي َف َة ُث لم أَ ْح َمََ َد َي ْنقِل ُ
س ِبيلَ ُه ْم َف ُم َو ِّح ٌد
*** َوإِ ِن ا ْب َت ْ
َفإِ ِن ا لت َب ْع َت َ
دَع َت َف َما َعلَ ْي َك ُم َع لول ُ
[email protected]
28